شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الكفن في ثوبين

          ░19▒ بَابُ: الكَفَنِ في ثَوْبَيْنِ.
          فيهِ: ابنُ عَبَّاسٍ(1): بَيْنَما(2) رَجُلٌ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ؛ إِذْ وَقَعَ عَنْ(3) رَاحِلَتِهِ فَوَقَصَتْهُ، قَالَ(4) النَّبِيُّ صلعم: (اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ في ثَوْبَيْنِ(5)، وَلا تُحَنِّطُوهُ، وَلا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ القِيَامَةِ مُلَبِّيًا). [خ¦1265]
          وترجم له باب: الحَنُوطُ للمَيِّتِ، وقالَ فيهِ: ((فأَقْصَعَتْهُ، أوْ قالَ: فأَفْعَصَتْهُ(6)))، وترجم له بابُ: كيفَ يُكَفَّنُ المُحْرِمُ.
          قال المُؤَلِّفُ(7): قال مالكٌ وأبو حَنِيْفَةَ: لا أحبُّ لأَحَدٍ(8) أن يُكفَّن في أقلِّ من ثلاثة أثوابٍ، وإن كُفِّن في ثوبين فحسنٌ على ظاهر قوله صلعم: ((كَفِّنُوهُ في ثَوْبَيْهِ، ولَا تُمِسُّوهُ طِيبًا، ولَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ(9))) قال الأوزاعيُّ:(10) وإنَّما ترجم له باب الحَنُوط للميِّت، لأنَّه لما قال في هذا الحديث: (لا تُحَنِّطُوهُ)، وكان مُحْرِمًا استدلَّ البخاريُّ ☼ مِن هذا أنَّه إذا لم يكن مُحْرِمًا أنَّه يُحَنَّطَ.
          واختلف(11) العلماء كيف يُكَفَّنُ المُحْرِمُ، فقال الشَّافعيُّ وأحمدُ بنُ حَنْبَلٍ: يُكفَّن المُحْرِمُ ولا يُغطَى رأسه، ولا يقرب(12) طيبًا، لأنَّ حُكْمَ إحرامه باقٍ. وهو قول عليٍّ وابنِ عبَّاسٍ على ظاهر هذا الحديث. وقال مالكٌ وأبو حَنِيْفَةَ والأوزاعيُّ: يُفعَل بالمُحْرِمِ ما يُفعَل بالحلال. وهو قول عُثْمَانَ وعائشةَ وابنِ عُمَرَ(13).
          قال ابنُ القَصَّارِ: والحجَّة لهذا القول قوله صلعم: ((إذا مَاتَ ابنُ آدمَ انقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثلاثٍ))، فدلَّ أنَّ بموته تنقطع عنه العبادة، وقد كَفَّنَ ابنُ عُمَرَ ابنه، وخَمَّرَ رأسه يوم(14) مات، وهو مُحْرِمٌ، وقال: لولا أنَّا حُرُمٌ لطيَّبْنَاه، وهذا(15) يدلُّ أنَّ الحديث خاصٌ في ذلك الرَّجُلِ بعينه.
          قوله صلعم: ((فإنَّه يُبْعَثُ يَوْمَ القِيَامَةِ(16) مُلَبْيًا)) كما قال في الشُّهَدَاءِ(17): ((فإنَّ الشَّهِيدَ يُبْعَثُ يوم القيامة اللَّونُ لونُ الدَّمِ، والرِّيحُ ريحُ مِسْكٍ))، فأخبر عن حالِ كلِّ من استحقَّ الشَّهادة(18)، ثمَّ خصَّ جعفر(19) لما قُطِعَتْ يداه، فقال: ((لَهُ جَنَاحَانِ يَطِيْرُ بِهِمَا في الجَنَّةِ))، ولم يقُلْ ذلك في غيره ممَّن قُطِعَتْ يداه من الشُّهَدَاءِ، فلذلك(20) خصَّ ذلك المُحْرِم الَّذي وُقِصَ، قال(21) غيره: ويمكن أن يكون(22) ذلك خُصُوصًا له من أجلِ أنَّ الله ╡ تَقَبَّلَ حَجَّهُ، ولا يعلم أحدٌ بعد النَّبيِّ(23) صلعم هل تَقَبَّلَ اللهُ تعالى حَجَّ غيره ممَّن يموت مُحْرِمًا؟ ولذلك غَسَّلَ ابنُ عُمَرَ ابنه بالجُحْفَة، وخَمَّر رأسه ووجهه، إذ لم يعلم هل(24) تَقَبَّلَ اللهُ حَجَّهُ(25)؟ ويدلُّ على ذلك قوله صلعم: ((كُلُّ كَلْمٍ يَكْلَمُهُ المُسْلِمُ في سَبِيْلِ اللهِ، واللهُ أَعْلَمُ بمَنْ يُكْلَمُ في سَبِيْلِهِ(26)))، فأخبر أنَّ ليس(27) كلُّ مَكْلُومٌ(28) يأتي جرحُهُ اللَّونُ لونُ دمٍ والرِّيحُ ريحُ مِسْكٍ، وإنَّما ذلك لمن خَلُصَتْ(29) نيَّته وجهاده لله تعالى، لا لجميع المكلومِين.
          وقال ابنُ المُنْذِرِ في قوله: (كَفِّنُوهُ في ثَوْبَيْنِ) دليلٌ(30) أنَّ الكَفَنَ من رأسِ المالِ.
          وقوله: (فَوَقَصْتُهُ) تقول العرب: وَقَصَ الشَّيء وَقْصًا: كسره. ولم أجدْ في اللُّغة (أَوْقَصَهُ) اللَّفظة الَّتي شكَّ فيها المُحَدِّث، والقَصْعُ: القَتْلُ، / والماءُ تَقْطَعُ(31) العَطَشَ، أي تَقْتُلُهُ(32)، وقَصْعُ القَمْلَةِ: قَتْلُهَا، بالقَعْصِ(33): القَتْلُ المُعَجَّلُ(34).


[1] قوله: ((فيه ابن عبَّاس)) ليس واضحًا في (ز).
[2] في (م) و(ص): ((بينا)).
[3] في (م): ((على)).
[4] في (م): ((فوقصته أو قال فأوقصته فقال)).
[5] في (م): ((ثوبيه)).
[6] في (م): ((وقال فيه فأقعصته أو قال فأقصعته)). في (ص): ((فأقصعته أم قال فأقعصته)).
[7] قوله: ((قال المُؤَلِّفُ)) ليس في (م).
[8] قوله: ((لأحد)) ليس في (م).
[9] في (م): ((كفنوه في ثوبيه ونحوه)).
[10] قوله: ((قال الأوزاعي)) ليس في المطبوع. في (م): ((كفنوه في ثوبيه ونحوه)).
[11] في (ص): ((اختلف)).
[12] في (م): ((يقربه)).
[13] في (م): ((ابن عُمَر وعائشة)).
[14] في (م): ((حين)).
[15] في (م): ((ومما)). في (ص): ((وقال)).
[16] قوله: ((يوم القيامة)) ليس في (م).
[17] في (م): ((كما قال فيمن استحقَّ الشهادة)).
[18] في (م): ((حال كلِّ شهيد)).
[19] في (ص): ((جعفرًا)).
[20] في (م) و(ي): ((فكذلك)).
[21] في المطبوع: ((دون)).
[22] قوله: ((يكون)) ليس في (م).
[23] في (ص): ((الرسول)).
[24] قوله: ((هل)) ليس في (ص).
[25] في (م): ((هل تقبل حجَّه)).
[26] قوله: ((في سبيله)) ليس في (ص).
[27] قوله: ((ليس)) ليس في (م).
[28] زاد في (م): ((لا)).
[29] في (ص): ((حصلت)).
[30] زاد في (م): ((على)).
[31] في المطبوع و(ص): ((يقصع)).
[32] قوله: ((أي تقتله)) ليس في (ص).
[33] في المطبوع: ((والقعص)). في (ص): ((بالقصع)).
[34] العبارة في (م): ((من رأس المال، والقعص القتل المعجل والقصع: القتل، والماء يقصع العطش، أي يقتله، وقصع القملة: قتلها وقوله: (فوقصته) تقول العرب: وقص الشَّيء وقصًا: كسره. ومنه قول الرَّجل أوقص إذا كان قصير العنق مائلها ولم أجد في اللَّغة (أوقصته) الكلمة الَّتي يشكُّ فيها المحدِّث)) ليس في (م).