شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب ثناء الناس على الميت

          ░85▒ باب: ثناءِ النَّاسِ على الميِّتِ.
          فيه: أَنَسٌ: (مَرُّوا بِجَنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا، فَقَالَ النَّبيُّ(1) صلعم: وَجَبَتْ، ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرَى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًَّا، فَقَالَ النَّبيُّ صلعم(2): وَجَبَتْ، فَقَالَ عُمَرُ بنُ الخطَّابِ(3): مَا وَجَبَتْ؟ قَالَ: هَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا فَوَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّة، وَهَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًَّا فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ في الأرْضِ). [خ¦1367]
          وفيهِ(4) عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ النَّبيُّ صلعم: (أَيُّمَا مُسْلِمٍ شَهِدَ لَهُ أَرْبَعَةٌ بِخَيْرٍ أَدْخَلَهُ اللهُ الْجَنَّةَ، فَقُلْنَا: وَثَلاثَةٌ؟ قَالَ: وَثَلاثَةٌ، فَقُلْنَا: وَاثْنَانِ؟ قَالَ: وَاثْنَانِ، ثُمَّ لَمْ نَسْأَلْهُ عَنِ الْوَاحِدِ). [خ¦1368]
          قال أبو جعفر الدَّاوديُّ: معنى هذا الحديث عند الفقهاء إذا أثنى عليه أهل(5) الفضل والصِّدق؛ لأنَّ الفسقة قد يثنون على الفاسق، فلا يدخلون(6) في معنى هذا الحديث، والمراد _والله أعلم_ إذا كان الثَّناء بالشرِّ ممَّن ليس له بعدوٍّ؛ لأنَّه قد يكون للرَّجل الصَّالح العدوُّ، فإذا مات عدوُّه ذَكَر عند ذلك / الرَّجل الصَّالح شرًّا، فلا يدخل الميِّت في معنى هذا(7)؛ لأنَّ شهادته كانت لا تجوز عليه في الدُّنيا _وإن كان عدلًا_ للعداوة، والبشرُ غير معصومين.
          قال عبد الواحد(8): إن قال قائل: حديث أنس يعارضه قوله ◙ في باب ما يُنهى عنه من سبِّ الأموات: ((لا تسبُّوا الأموات؛ فإنَّهم قد أفضوا إلى ما قدَّموا)).
          قيل له: حديث أنس هذا يجري مجرى الغيبة في الأحياء، فإن كان الرَّجل أغلب أحواله الخير وقد تكون منه الفلتة؛ فالاغتياب له محرَّم، وإن كان فاسقًا معلنًا فلا غيبة فيه، فكذلك الميِّت إذا كان أغلب أحواله الخير لم يجز ذكر ما فيه من شرٍّ ولا سبُّه به، وإن كان أغلب أحواله الشَّرُّ فيباح ذكره منه(9)، وليس ذلك ممَّا نُهي عنه من سبِّ الأموات، ويؤيِّد ذلك ما أجمع عليه أهل العلم من ذكر الكذَّابين وتجريح المجرَّحين.
          وفيه وجه آخر: وهو أنَّ حديث: ((لا تسبُّوا الأموات)) عامٌّ، وسببه ما رُوي عنه ◙ أنَّه قال: ((أمسكوا عن ذي قبر))، فيحتمل أن يكون ◙ أباح ذكر الميِّت بما فيه من غالب الشَّرِّ عند موته خاصَّة، ليُتَّعَظ بذلك فُسَّاق الأحياء، فإذا صار الميِّت في قبره وجب الإمساك عنه لإفضائه إلى ما قدَّم كما قال ◙، فسقط التَّعارض.
          فإن قيل: فلا حجَّة في جواز تجريح المحدِّثين؛ لأنَّ الضَّرورة دعت إلى ذلك حياطة لحديث النَّبيِّ ◙ فجاز تخصيصهم للضَّرورة.
          قيل له: هو مثل الذي غلب عليه الفسق، فوجب ذكر فسقه تحذيرًا مِن حاله، وهو من هذا الباب، ومثله ممَّا لا اعتراض لك فيه ذِكرُه ◙ للذي لم(10) يعمل حسنة قطُّ وهو مؤمن، فبذلك غفر له، فذكره بقبيح عمله لمَّا(11) كان الغالب على عمله الشَّرَّ لكنَّه(12) انتفع بخشية الله تعالى(13).
          قال المؤلِّف: فإن قال قائل: فإنَّ(14) حديث أنس مخالف لحديث عمر؛ لأنَّه لم يشترط(15) في الذين أثنوا على الجنازة خيرًا أو شرًّا(16) عددًا من النَّاس لا يجزئ أقلَّ منهم، وأحال في ذلك ◙ على(17) ما يغلب على الرَّجل بعد موته عند جملة من النَّاس من ثناء الخير والشرِّ، أنَّه المحكوم به له(18) في الآخرة، وقد جاء بيان هذا في حديث آخر: ((إنَّ الله إذا أحبَّ عبدًا أمر الملائكة أن تنادي في السَّماء: ألا(19) إنَّ الله يحبُّ فلانًا فأحبُّوه، فيحبُّه أهل السَّماء، ثمَّ يجعل(20) له القبول في الأرض، وإذا أبغض عبدًا كذلك)) فهذا(21) معنى قوله ◙: (أنتُم شُهدَاءُ اللهِ في الأرضِ) لأنَّ المحبَّة والبغضة من عنده تعالى، ويشهد لصحَّة هذا قوله تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي}[طه:39].
          فإن قيل: فهذا المعنى مخالف لحديث عمر؛ لأنَّه شرط فيه أربعة شهداء أو ثلاثة أو اثنين، وفي الحديث الأوَّل شرط جملة كثيرة مِن المؤمنين وإن لم يحصرهم عدد(22).
          قيل: ليس كما توهَّمت، وإنَّما اختلف العددان لاختلاف المعنيين، وذلك أنَّ الثَّناء قد يكون بالسَّماع المتَّصل على الألسنة، فاستحبَّ في ذلك التَّواتر والكثرة، والشَّهادة لا تكون إلَّا بالمعرفة والعلم بأحوال المشهود له، فناب في ذلك أربعة شهداء، وذلك على ما يكون من الشَّهادة، لأنَّ الله جعل(23) في الزِّنا أربعة شهداء إرادة السَّتر على عباده(24)، فإن قصروا عن ذلك ناب فيه(25) ثلاثة، فإن قصروا عن ذلك ناب فيه(26) اثنان، وذلك أقلُّ ما يجزئ من الشَّهادة على سائر الحقوق، رحمة من الله لعباده(27) المؤمنين، وتجاوزًا عنهم حين أجرى أمورهم(28) في الآخرة على ما أجراه في الدُّنيا، وقَبِلَ شهادة رجلين من عباده المؤمنين بعضهم على بعض في أحكام الآخرة.
          روى(29) ابن وضَّاح قال: حدَّثنا محمَّد بن مُصَفَّى، حدَّثنا بقيَّة، قال: حدَّثنا(30) الضَّحاك بن حُمرة عن صالح المليكي(31)، عن حميد، عن أنس قال: قال رسول الله صلعم: ((ما من ميِّت يموت فيشهد له رجلان من جيرته الأدنيين، فيقولان: اللَّهُمَّ لا نعلم إلَّا خيرًا، إلَّا قال الله لملائكته: أشهدكم أنَّني(32) قد قبلت شهادتهم(33)، وغفرت له ما لا يعلمون)).


[1] قوله:((النبي)) زيادة من (م).
[2] قوله:((النبي صلعم)) زيادة من (م).
[3] قوله: ((بن الخطاب)) ليس في (م).
[4] في (م): ((وقال)).
[5] قوله: ((أهل)) زيادة من (م).
[6] في (م): ((يدخل)).
[7] في (م): ((شره فلا يدخل الميت أيضًا في معنى هذا الحديث)).
[8] قوله: ((قال عبد الواحد)) ليس في (م).
[9] في (م): ((فمباح ذكره به)).
[10] قوله:((لم)) زيادة من (م) وكذا قوله بعدها: ((قط)).
[11] في (ص): ((إذا)) والمثبت من (م).
[12] قوله:((لكنه)) زيادة من (م).
[13] قوله: ((إن قال قائل: حديث أنس يعارضه.... بخشية الله تعالى)) أتى في (م) بعد قوله الآتي: ((إلا قال الله لملائكته أشهدكم أنني قد قبلت شهادتهم وغفرت له ما لا يعلمون)).
[14] قوله: ((فإن)) ليس في (م).
[15] في (م): ((يشرط)).
[16] في (م): ((أو شرًا)) وبعدها فيها: ((عددًا من المؤمنين)).
[17] قوله:((على)) زيادة من (م).
[18] في (م): ((له به)).
[19] قوله: ((ألا)) ليس في (م).
[20] في (م): ((يوضع)) وبعدها فيها: ((في أهل الأرض)).
[21] في (م): ((فهو)).
[22] في (م): ((بعدد)).
[23] في (م): ((الشهادة كما جعل الله ╡)).
[24] قوله:((إرادة الستر على عباده)) زيادة من (م).
[25] في (م): ((فإن قصر الشُّهداء على المسلم بالخبر بعد موته عن أربعة ناب ثلاثة)).
[26] قوله: ((فيه)) ليس في (م).
[27] في (م): ((بعباده)).
[28] في (م): ((من إجراء أمورهم)).
[29] في (م):((وقد روى)).
[30] في (م): ((حدثني)).
[31] في المطبوع: ((الأملوكي)) وهو الصواب، صوبه محققه من «تهذيب الكمال».
[32] في (م): ((أني)).
[33] في (م): ((شهادتهما)) وفيها بعدها: ((مالا يعلمان)).