إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: يا عائشة لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية لأمرت

          1586- وبالسَّند قال: (حَدَّثَنَا بَيَانُ بْنُ عَمْرٍو) بفتح العين وسكون الميم، و«بَيَان» بفتح المُوحَّدة وتخفيف التَّحتيَّة وبعد الألف نونٌ البخاريُّ، المُتوفَّى سنة ثنتين وعشرين ومئتين، قال: (حَدَّثَنَا يَزِيدُ) من الزِّيادة، هو ابن هارون كما جزم به أبو نُعيمٍ في «مستخرجه»، قال: (حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ) بالحاء المهملة والزَّاي و«جَرِير»: بالجيم المفتوحة والرَّاء المُكرَّرة بينهما تحتيَّةٌ، قال: (حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ) بضمِّ الرَّاء وسكون الواو وتخفيف الميم وبعد الألف نونٌ غير مصروفٍ، و«يزيد»: من الزِّيادة، وهو مولى آل الزُّبير (عَنْ عُرْوَةَ) بن الزُّبير بن العوَّام، قال الحافظ ابن حجرٍ: كذا رواه الحفَّاظ من أصحاب يزيد بن هارون عنه، فأخرجه أحمد ابن حنبلٍ وأحمد بن سنانٍ وأحمد بن منيعٍ في «مسانيدهم» عنه هكذا، والنَّسائيُّ عن عبد الرَّحمن بن محمَّد بن سلَّامٍ، والإسماعيليُّ من طريق هارون الحمَّال والزَّعفرانيُّ، كلُّهم عن يزيد بن هارون، وخالفهم الحارث بن أبي أسامة فرواه عن يزيد بن هارون فقال: عن عبد الله بن الزُّبير بدل عروة بن الزُّبير، وهكذا أخرجه الإسماعيليُّ من طريق أبي(1) الأزهر عن وهب بن جريرٍ بن حازمٍ عن أبيه، قال الإسماعيليُّ: إن كان أبو الأزهر ضبطه؛ فكأنَّ يزيد بن رومان سمعه من الأخوين(2)، قال الحافظ ابن حجرٍ: قد تابعه محمَّد بن مُشكان كما أخرجه الجَوزقيُّ عن الدَّغوليِّ عنه عن وهب بن جريرٍ، ويزيدُ قد حمله عن الأخوين، لكنَّ رواية الجماعة أوضح، فهي أصحُّ (عَنْ عَائِشَةَ ♦ : أَنَّ النَّبِيَّ صلعم قَالَ لَهَا: يَا عَائِشَةُ، لَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ) بإضافة «حديث» لـ «عهد» عند جميع الرُّواة، قال المُطرِّزيُّ: وهو لحنٌ؛ إذ لا يجوز حذف الواو في مثل هذا، والصَّواب: حديثو عهدٍ بواو الجمع؛ كذا(3) نقله الزَّركشيُّ‼ والحافظ ابن حجرٍ والعينيُّ وأقرُّوه، وأجاب صاحب «المصابيح» بأنَّه لا لحن فيه ولا خطأٌ، والرِّواية صوابٌ، وتُوجَّه بنحو ما قالوه في قوله تعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ}[البقرة:41] حيث قالوا: إنَّ التقدير: أوَّل فريقٍ كافرٍ أو فوجٍ كافرٍ؛ يعنون: أنَّ مثل هذه الألفاظ مفردةٌ بحسب اللَّفظ، وجَمْعٌ بحسب المعنى، فيجوز لك رعاية لفظه تارةً، ومعناه أخرى كيف شئت، فانقل هذا إلى الحديث تجده ظاهرًا لا خفاء بصوابه، وقال صاحب «اللَّامع»: قد يُوجَّه(4) بأنَّ «فَعيلًا» يُستعمَل للمفرد والجمع والمُؤنَّث والمُذكَّر كما في: {إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ}[الأعراف:56] وخُرِّج عليه: «خبيرٌ بنو لِهْبٍ» إذا قلنا: إنَّه خبرٌ مُقدَّمٌ، فإذا صحَّت الرِّواية وجب التَّأويل.
          (لأَمَرْتُ بِالبَيْتِ فَهُدِمَ، فَأَدْخَلْتُ فِيهِ مَا أُخْرِجَ مِنْهُ) بضمِّ الهمزة، أي: من الحِجْر (وَأَلْزَقْتُهُ بِالأَرْضِ) بحيث يكون بابه على وجهها غير مرتفعٍ عنها، و«ألزقته» بالزَّاي؛ كألصقته بالصَّاد (وَجَعَلْتُ لَهُ بَابَيْنِ بَابًا شَرْقِيًّا) مثل الموجود الآن (وَبَابًا غَرْبِيًّا، فَبَلَغْتُ بِهِ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ) ╕ (فَذَلِكَ الَّذِي حَمَلَ ابْنَ الزُّبَيْرِ) عبد الله (عَلَى هَدْمِهِ) البيت، زاد وهبٌ: و«بنائه»، والإشارة في قوله ذلك إلى ما روته عائشة ♦ عنه ╕ مع عدم وجود ما كان ╕ يخافه من الفتنة وقصور النَّفقة كما في حديث عطاءٍ عند مسلمٍ بلفظ: وقال ابن الزُّبير: سمعت عائشة تقول: إنَّ النَّبيَّ صلعم قال: «لولا أنَّ النَّاس حديثٌ عهدهم بكفرٍ، وليس / عندي من النَّفقة ما يقوى على بنائه لكنت أدخلت فيه من الحِجْر خمسة أذرعٍ، ولجعلت له بابًا يدخل منه النَّاس، وبابًا يخرجون منه، فأنا اليوم أجد ما أنفق ولست أخاف النَّاس....» الحديث.
          (قَالَ يَزِيدُ) بن رومان بالإسناد السَّابق: (وَشَهِدْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ حِينَ هَدَمَهُ) وكان قد هدمه حتَّى بلغ به الأرض (و) حين (بَنَاهُ) وكان في سنة خمسٍ وستِّين، وقال الأزرقيُّ: في نصف جمادى الآخرة سنة أربعٍ وستِّين، وجمع بينهما بأنَّ الابتداء كان في سنة أربعٍ والانتهاء كان في سنة خمسٍ، وأيَّدوه بأنَّ في «تاريخ» المُسَبِّحيِّ(5): أنَّ الفراغ من بناء البيت كان في سنة خمسٍ وستِّين، وزاد المحبُّ الطَّبريُّ: أنَّه كان في شهر رجب (وَأَدْخَلَ فِيهِ مِنَ الحِجْرِ) خمسة أذرعٍ، قال يزيد بن رومان: (وَقَدْ رَأَيْتُ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ حِجَارَةً كَأَسْنِمَةِ الإِبِلِ) وفي «كتاب مكَّة» للفاكهيِّ من طريق أبي أويسٍ عن يزيد بن رومان: فكشفوا له، أي: لابن الزُّبير عن قواعد إبراهيم، وهي صخرٌ أمثالُ الخَلِفِ من الإبل؛ أي الحوامل من النُّوق، ورأوه بنيانًا مربوطًا بعضه ببعضٍ، وعند عبد الرَّزَّاق من طريق ابن سابطٍ عن زيدٍ: أنَّهم كشفوا عن القواعد، فإذا الحجر‼ مثل الخَلِفَةِ (6)، والحجارة مشتبكٌ بعضها ببعضٍ، وفي روايةٍ للفاكهيِّ(7) عن عطاءٍ قال: كنت في الأبناء الذين(8) جمعوا على حَفْرِه، فحفروا قامةً ونصفًا(9)، فهجموا على حجارةٍ لها عروقٌ تتَّصل بزَرْدِ عروق المروة، فضربوه فارتَّجت قواعد البيت، فكبَّر النَّاس، فبُنِي عليه، وفي رواية مَرْثَدٍ عند عبد الرَّزَّاق: فَكَشَفَ عن رُبْضٍ في الحِجْر، آخذٌ بعضُه ببعضٍ، فتركه مكشوفًا ثمانية أيَّام ليُشْهِد(10) عليه، فرأيت ذلك الرَّبض مثل خَلْف الإبل، وجهٌ حجرٌ ووجهٌ حجرٌ ووجهٌ حجرٌ ووجهٌ حجران، ورأيت الرَّجل يأخذ العَتَلَةَ، فيضرب بها من ناحية الرُّكن، فيهتزُّ الرُّكن الآخر.
          (قَالَ جَرِيرٌ) هو ابن حازمٍ المذكور: (فَقُلْتُ لَهُ) أي: ليزيد بن رومان: (أَيْنَ مَوْضِعُهُ) أي: الأساس؟ (قَالَ: أُرِيكَهُ الآنَ، فَدَخَلْتُ مَعَهُ الحِجْرَ فَأَشَارَ إِلَى مَكَانٍ) منه (فَقَالَ: هَهُنَا، قَالَ جَرِيرٌ: فَحَزَرْتُ) بتقديم الزَّاي على الرَّاء المهملة، أي: قدَّرت (مِنَ الحِجْرِ) بكسر الحاء وسكون الجيم (سِتَّةَ أَذْرُعٍ) بالذَّال المعجمة جمع ذراعٍ، ولأبي ذرٍّ: ”ستَّ أذرعٍ“ (أَوْ نَحْوَهَا) قال في «المصابيح»: والسَّبب في كونه حزر ذلك ولم يقطع به أنَّ المنقول أنَّه لم يكن حول البيت حائطٌ يحجز الحِجْر من سائر المسجد حتَّى حجزه عُمر بالبنيان، ولم يبنهِ على الجدار الذي كان علامةً على(11) أساس إبراهيم ◙ بأن زاد ووسَّع قطعًا للشَّكِّ، وصار الجدار في داخل التَّحجير فلذلك حزر جريرٌ ولم يقطع. انتهى. وهذا نقله المُهلَّب عن ابن أبي زيدٍ بلفظ: إنَّ حائط الحِجر لم يكن مبنيًّا في زمن النَّبيِّ صلعم وأبي بكرٍ حتَّى كان عمر، فبناه ووسَّعه قطعًا للشَّكِّ، وفيه نظرٌ لأنَّ هذا إنَّما هو في حائط المسجد لا في الحجر، ولم يزل الحِجر موجودًا في عهد(12) النَّبيِّ صلعم كما يصرِّح به كثيرٌ من الأحاديث الصَّحيحة، وهل الصَّحيح أنَّ الحجر كلَّه من البيت حتَّى لا يصحَّ الطَّواف في جزءٍ منه أو بعضه فيصحَّ؟ جزم النَّوويُّ بالأوَّل _كابن الصَّلاح_ لحديث «الصَّحيحين»: «الحجر من البيت» [خ¦1584] وأبو محمَّدٍ الجوينيُّ وولده إمام الحرمين والبغويُّ بالثَّاني، وقال الرَّافعيُّ: إنَّه(13) الصَّحيح لحديث الباب، وحديث مسلمٍ عن الحارث عن عائشة: «فإن بدا لقومك أن يبنوه بعدي فهلمِّي لأُرِيَك ما تركوا منه، قريبًا من سبعة أذرعٍ»، وله من طريق سعيد بن مِيْناء عن عبد الله بن الزُّبير عنها: وزدت فيه ستَّة أذرعٍ، ولسفيان بن عُيَيْنَة في «جامعه»: أنَّ ابن الزُّبير زاد ستَّة أذرعٍ ممَّا يلي الحِجْر، وله أيضًا: ستَّة أذرعٍ وشبر، لكن قال ابن الصَّلاح منتصرًا لما ذهب إليه: اضطربت الرِّوايات في ذلك؛ ففي «الصَّحيحين»: «الحجر من البيت»، ورُوِي: ستَّة أذرعٍ، ورُوِي: ستٌّ أو نحوها، ورُوِي: خمسٌ، ورُوِي: قريبًا من سبعٍ، وحينئذٍ يتعيَّن الأخذ بأكثرها ليسقط الفرض بيقينٍ، وقال الحافظ زين الدِّين‼ العراقيُّ في «شرح سنن أبي داود»: ظاهر نصِّ الشَّافعيِّ في «المختصر»: أنَّ الحِجْر كلَّه من البيت، وهو مقتضى كلام جماعةٍ من أصحابه، وقال النَّوويُّ: إنَّه الصَّحيح، وبه قطع جماهير أصحابنا، وقال: هذا هو الصَّواب، وتُعقِّب بأنَّ الجمع بين المختلف من / الأحاديث ممكنٌ، وهو أَولى من دعوى الاضطراب والطَّعن في الرِّوايات المُقيَّدة لأجل الاضطراب؛ لأنَّ شرط الاضطراب أن تتساوى الوجوه بحيث يتعذَّر التَّرجيح أو الجمع، ولم يتعذَّر ذلك هنا، فيتعيَّن حمل المُطلَق على المُقيَّد، وإطلاق اسم الكلِّ على البعض سائغٌ مجازًا، وحينئذٍ فالرِّواية التي جاء فيها: أنَّ «الحِجْر من البيت» [خ¦1584] مطلقةٌ، فيُحمَل المُطلَق منها على المُقيَّد، ولم تأت روايةٌ قطُّ صريحةٌ بأنَّ جميع الحجر من بناء إبراهيم في البيت، وإنَّما قال النَّوويُّ ذلك نصرةً لما صحَّحه: أنَّ جميع الحِجْر من البيت، وعمدته في ذلك أنَّ الشَّافعيَّ نصَّ على إيجاب الطَّواف خارج الحجر، ونقل ابن عبد البرِّ الاتِّفاق عليه، لكن لا يلزم منه أن يكون كلُّه من البيت، فقد نصَّ الشَّافعيُّ كما ذكره البيهقيُّ في «المعرفة»: أنَّ الذي في الحجر من البيت نحوٌ من ستَّة أذرعٍ، ونقله عن عدَّةٍ من أهل العلم من قريشٍ لقيهم، فيحتمل أن يكون رأى إيجاب الطَّواف من ورائه احتياطًا، ولأنَّه صلعم إنَّما طاف خارجه، وقد قال: «خذوا عنِّي مناسككم» وكما لا يصحُّ الطَّواف داخل البيت لا يصحُّ داخل جزءٍ منه، فلا يصحُّ على الشَّاذَروان _بفتح الذَّال المعجمة_ وهو الخارج عن عرض جدار البيت مرتفعًا عن وجه الأرض قدر ثلثي ذراعٍ، تركته قريشٌ لضيق النَّفقة، فلو كان في الطَّواف ومسَّ جدار البيت في موازاة(14) الشَّاذَروان لا يصحُّ على الأصحِّ لأنَّ بعض بدنه في البيت، والصَّحيح من مذهب الحنابلة لا يجزئه وقطعوا به، وعند الشَّيخ تقيِّ الدِّين بن تيميَّة: إنَّه ليس من الكعبة، فعلى الأوَّل لو مسَّ الجدار بيده في موازاة الشَّاذَروان صَحَّ لأنَّ معظمه خارج البيت، قال(15) في «الرِّعاية الكبرى»: لكن قال المرداويُّ: ويحتمل عدم الصِّحَّة، وقال الحنفيَّة: يصحُّ طواف من لم يحترز منه، لكن قال العلَّامة ابن الهمام: وينبغي أن يكون طوافه وراء الشَّاذَروان لئلَّا يكون طوافه في البيت بناءً على أنَّه منه، وقال الكِرمانيُّ من الحنفيَّة: الشَّاذَروان ليس من البيت عندنا، وعند الشَّافعيِّ: منه؛ حتَّى لا يجوز الطَّواف عليه، والقول قولنا لأنَّ الظَّاهر أنَّ البيت هو الجدار المرئيُّ قائمًا إلى أعلاه. انتهى. ومشهور مذهب المالكيَّة كالشَّافعيَّة، وعبارة الشَّيخ بهرام: ومن واجبات الطَّواف أن يطوف، وجميع بدنه خارجٌ عن شاذروان البيت، وهو البناء المُحْدَودب(16) الذي‼ في جدار البيت، وأُسقِط من أساسه ولم يُرفَع على استقامته. انتهى. ونحوه قال الشَّيخ خليلٌ في «التَّوضيح»، لكن نازع الخطيب أبو عبد الله بن رُشَيدٍ _بضمِّ الرَّاء وفتح المعجمة_ في «رحلته» في ذلك محتجًّا بما حاصله: أنَّ لفظ الشَّاذَروان لم يوجد في حديثٍ صحيحٍ ولا سقيمٍ ولا عن أحدٍ من السَّلف ولا ذِكْرَ له عن فقهاء المالكيَّة إلَّا ما وقع في «الجواهر» لابن شاسٍ، وتبعه ابن الحاجب، وهو بلا شكٍّ منقولٌ من كتب الشَّافعيَّة، وأقدم من ذكر ذلك منهم المزنيُّ، ومن ذكره منهم كابن الصَّلاح والنَّوويِّ مقرٌّ بأنَّ اليمانِيَيْن على قواعد إبراهيم، والآخرين ليسا عليها، فلو كان الشَّاذَروان من البيت لكان الرُّكن الأسود داخلًا في البيت، ولم يكن متمَّمًا على قواعد إبراهيم، فمن أين نشأ الشَّاذَروان؟ وقد انعقد الإجماع على أنَّ البيت مُتمَّمٌ على قواعد إبراهيم من جهة الرُّكنين اليمانِيَيْن ولذلك استلمهما النَّبيُّ صلعم دون الآخرين، وأنَّ ابن الزُّبير لمَّا هدمه حتَّى بلغ به الأرض وبناه على قواعد إبراهيم إنَّما زاد فيه من جهة الحجر، وأقامه على الأسس الظَّاهرة التي عاينها العُدول من الصَّحابة وكبراء التَّابعين، وأنَّ الحجَّاج لمَّا نقض البيت بأمر عبد الملك لم ينقضه(17) إلَّا من جهة الحِجر خاصَّةً، وهذا أمرٌ معلومٌ مقطوعٌ به مُجمَعٌ عليه منقولٌ بالسَّند الصَّحيح في الكتب المعتمدة التي لا يشكُّ فيها أحدٌ، وهو يردُّ(18) قول ابن الصَّلاح: إنَّ قريشًا لمَّا رفعوا الأساس بمقدار ثلاثة(19) أصابع من وجه الأرض _وهو القدر الظَّاهر الآن من الشَّاذَروان الأصليِّ قبل تزليقه(20)_ نقصوا عرض الجدار عن عرض الأساس الأوَّل، قال ابن رُشَيدٍ: وكيف يُقال: إنَّ هذا القدر الظَّاهر نقصته قريشٌ من عرض الجدار؟ وهل بقي لبناء قريشٍ أثرٌ؟ فالسَّهو والغلط فيما نقله ابن الصَّلاح مقطوعٌ به، ولعلَّ ابن الصَّلاح نقله عن التَّاريخيِّين، وإلَّا فهذا لم يأت في خبرٍ صحيحٍ ولا رُوِي من قول صاحبٍ يصحُّ / سنده، ولو صحَّ لاشتُهِر ونُقِل، وإنَّما وُضِعَ هذا البناء حول البيت؛ ليقيه السُّيول كما قاله ابن عبد ربِّه في «كتاب العقد» في «صفة الكعبة»، وقال ابن تيميَّة: إنه جُعِل عمادًا للبيت، وأيَّده بأنَّ داخل الحجر تحت حائط الكعبة شاذَروان، فيكون هذا الشَّاذَروان نظير الشَّاذَروان الذي هو خارج البيت، ولم يقل أحدٌ: إنَّ هذا في الحجر له حكم الشَّاذَروان الخارج ولا إنَّه عمادٌ، وإنَّ الخارج شاذروان، فكون هذا الشَّاذَروان مراعًى في الطَّواف لا دليل عليه، ومثل هذا لا يثبت إلَّا بالإجماع الصَّحيح المتواتر النَّقل. انتهى. وأقول: قول ابن رُشَيدٍ: إنَّه لم يوجد لفظ الشَّاذَروان عن أحدٍ من السَّلف‼، ونسبة ابن الصَّلاح إلى السَّهو والغلط فيما نقله من ذلك يُقال عليه: هذا الإمام الأعظم الشَّافعيُّ قد قال ذلك فيما نقله عنه البيهقيُّ في كتابه «معرفة السُّنن والأخبار»، وعبارته: قال الشَّافعيُّ: فكلُّ طوافٍ طافه على شاذروان الكعبة أو في الحِجر أو على جداره فكما(21) لم يَطُفْ، قال الشَّافعيُّ: أمَّا الشَّاذَروان فأحسبه مبنيًّا على أساس الكعبة، ثمَّ يقتصر بالبنيان عن استيطافه، ولا ريب أنَّ الشَّافعيَّ من أَجَلِّ السَّلف، ثمَّ إنَّه لا يلزم من كونه ╕ كان يستلم الرُّكنين اليمانيَين عدم وجود الشَّاذَروان، ووجوده ليس مانعًا من استلامهما لصدق القول بأنَّهما على القواعد، وليس فيما نقله ابن رُشَيدٍ تصريحٌ بأنَّ ابن الزُّبير وضع البناء على أساس إبراهيم ◙ بحيث لم يبق شيئًا ممَّا يُسمَّى شاذَروان، ولا وقفت على ذلك في شيءٍ من الرِّوايات، فيحتمل أن يكون الأمر كذلك، وأن يكون على حدِّ بناء قريشٍ، فأبقى ما قِيلَ: إنَّهم أبقوه، وإذا احتمل الأمر واحتمل...(22) سقط الاستدلال به، نعم هَدْمُ ابن الزُّبير لجميع البيت الظَّاهرُ منه إنَّما كان ليعيده على القواعد، بحيث لم يترك شيئًا منها خارجًا عن الجدار(23) من جميع جوانبه، وإلَّا فلو كان غرضه إعادة ما نقضته(24) قريشٌ من جهة الحجر فقط لاكتفى بهدم ذلك، فهدمه لجميعه وإعادته لا بدَّ وأن يكون لغرضٍ صحيحٍ، وليس ثمَّ سوى إعادته على بناء الخليل من غير أن يترك منه شيئًا، لكن روى مسلمٌ في «صحيحه» عن عطاءٍ قال: لمَّا احترق البيت زمن يزيد بن معاوية قال ابن الزُّبير: يا أيُّها النَّاس أشيروا عليَّ في الكعبة أنقضها ثمَّ أبني بناءها أو أصلح ما وَهَى منها؟ قال ابن عبَّاسٍ: إنِّي أرى أن تصُلِح ما وهى منها وتَدَعَ بيتًا أسلمَ النَّاسُ عليه، وأحجارًا أسلم النَّاس عليها، وبُعِث عليها النَّبيُّ صلعم ، فقال ابن الزُّبير: لو أنَّ أحدكم احترق بيته ما رضي حتَّى(25) يجدِّده، فكيف ببيت ربِّكم؟! إنِّي مستخيرٌ ربِّي ثلاثًا، ثمَّ عازمٌ على أمري(26)، فلمَّا مضى الثَّلاث أجمع رأيه على أن ينقضها... الحديث، فلم يقل: إنِّي أريد إعادتها(27) على كلِّ(28) قواعد إبراهيم، بل قال جوابًا لابن عبَّاسٍ حيث قال: إنِّي أرى أن تُصلِح ما وَهَى، لو أنَّ أحدكم احترق بيته ما رضي حتَّى يجدِّده، ففيه مع ما قبله إشعارٌ بأنَّ الدَّاعي له على الهدم والبناء زيادة ما نقصته قريشٌ من البيت من جهة الحِجْر وما وَهَى بسبب الحريق، فلم يتعيَّن أنَّ الهدم كان متمحِّضًا لإعادتها كلِّها على القواعد بحيث لا يترك منها شيئًا، ولم أر في شيءٍ من الأحاديث التَّصريحَ بأنَّ قريشًا أبقت من الأساس ما سُمِّي(29) شاذَروان، بل السِّياق(30) مشعرٌ بالتَّخصيص‼ بالحِجْر، فليُتأمَّل.
          وهذا الحديث من علامات النُّبوَّة؛ حيث أعلم النَّبيُّ صلعم عائشة بذلك، فكان الذي تولَّى نقضها وبناءها ابن أختها ابن الزُّبير، ولم يُنقَل أنَّه قال ذلك لغيرها من الرِّجال والنِّساء، ويؤيِّد ذلك قوله ╕ لها: «فإن بدا لقومك أن يبنوه فهلمِّي لأُرِيَكِ ما تركوا منه» فأراها قريبًا من سبعة أذرعٍ، رواه مسلمٌ في «صحيحه».


[1] في (د): «ابن»، وليس بصحيحٍ.
[2] في (د) و(م): «الآخرين»، وكذا في الموضع اللَّاحق، والمثبت موافقٌ لما في «الفتح» (3/520).
[3] في (د): «كما».
[4] في غير (د): «تُوجِّه».
[5] في (ص): «المسبجيِّ»، وفي (د) و(م): «المسيحيِّ»، وهو تصحيفٌ.
[6] في (د): «الخلف».
[7] في (د): «للفكهانيِّ».
[8] في (د): «البناء الذي».
[9] في (د): «فحفروا نحو قامةٍ ونصفٍ».
[10] في غير (ص) و(م): «ليشهدوا».
[11] «على»: ليس في (ص) و(م).
[12] في (د): «زمن».
[13] زيد في غير(د) و(س): «من».
[14] في (د): «محاذاة»، وكذا في الموضع اللَّاحق.
[15] في (د) و(م): «قاله».
[16] في (د) و(ص): «المحدوب».
[17] في (م): «ينقصه».
[18] زيد في (ص): «على».
[19] في (ص) و(م): «ثلاث».
[20] في (د): «تربيعه».
[21] زيد في (د): «لو».
[22] أي: واحتمل ضده، سقط التمسك به.
[23] في (م): «الجدر».
[24] هكذا في كل الأصول الخطية، وفي (د) و(س): «نقصته».
[25] «حتَّى»: ليس في (ص).
[26] في غير (د) و(ص): «أمرٍ»، والمثبت موافقٌ لما في «صحيح مسلمٍ».
[27] في (د) و(س): «إعادته».
[28] «كلِّ»: مثبتٌ من (د) و(م).
[29] في غير(ص) و(م): «يُسمَّى».
[30] في (د): «القياس».