إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب من أشعر وقلد بذي الحليفة ثم أحرم

          ░106▒ (بابُ مَنْ أَشْعَرَ وَقَلَّدَ) هديه (بِذِي الحُلَيْفَةِ) ميقات أهل المدينة (ثُمَّ أَحْرَمَ) بعد الإشعار والتَّقليد.
          (وَقَالَ نَافِعٌ) مولى ابن عمر بن الخطَّاب ممَّا وصله مالكٌ في «مُوطَّئه»(1): (كَانَ ابْنُ عُمَرَ ☻ إِذَا أَهْدَى مِنَ المَدِينَةِ قَلَّدَهُ) أي: الهدي بأن يعلِّق في عنقه نعلين من النِّعال التي تُلبَس في الإحرام (وَأَشْعَرَهُ بِذِي الحُلَيْفَةِ) من الإِشعار _بكسر الهمزة_ وهو لغةً: الإعلام، وشرعًا: ما هو مذكورٌ في قوله: (يَطْعُنُ) بضمِّ العين، أي: يضرب (فِي شِقِّ) بكسر الشِّين المعجمة، أي: ناحية صفحة (سَنَامِهِ) بفتح السِّين المهملة، أي: سنام الهدي (الأَيْمَنِ) نعتٌ لـ «شِقِّ»، وقال مالكٌ: في الأيسر، وهو الذي في «المُوطَّأ»، نعم روى البيهقيُّ عن ابن جريجٍ عن نافعٍ عن ابن عمر: أنَّه كان لا يبالي في أيِّ الشِّقَّين أشعر؛ في الأيسر أو في الأيمن، قال: وإنَّما يقول الشَّافعيُّ بما روى في ذلك عن النَّبيِّ صلعم (2)؛ يشير إلى حديث ابن عبَّاسٍ: أشعر النَّبيُّ صلعم في الشِّقِّ الأيمن (بِالشَّفْرَةِ) بفتح الشِّين(3) المعجمة: السِّكِّين العريضة؛ بحيث يكشط جلدها حتَّى يظهر الدَّم (وَوَجْهُهَا) أي: البدنة (قِبَلَ) بكسر القاف وفتح المُوحَّدة، أي: جهة (القِبْلَةِ) أي(4): في حالتي التَّقليد والإشعار، حال كونها (بَارِكَةً) ويلطِّخها بالدَّم لتُعرَف إذا ضلَّت، وتتميَّز إذا اختلطت بغيرها، فإن لم يكن لها سنامٌ أشعر موضعه، هذا مذهب الشَّافعيَّة، وهو ظاهر «المُدوَّنة»، وفي كتاب محمد: لا تُشْعر؛ لأنَّه تعذيبٌ، فيقتصر فيه(5) على ما ورد، وقال أبو حنيفة: الإشعار مكروهٌ، وخالفه صاحباه، فقالا: إنَّه سنَّةٌ، واحتجَّ لأبي حنيفة بأنَّه مثلةٌ، وهي منهيٌّ عنها وعن تعذيب الحيوان، وأُجيب بأنَّ أخبار النَّهي عن ذلك عامَّةٌ، وأخبار الإشعار خاصَّةٌ، فقُدِّمت، وقال الخطَّابيُّ: أشعر النَّبيُّ صلعم بدنةً آخر حياته، ونهيه عن المثلة كان أوَّل مَقْدَمه المدينة، مع أنَّه ليس من المثلة، بل من بابٍ آخر. انتهى. أي: بل هو كالختان والفصد وشقِّ أذن(6) الحيوان؛ ليكون علامةً وغير ذلك كالختان، وقد كَثُر تشنيع المتقدِّمين‼ على أبي حنيفة ☼ في إطلاقه كراهة الإشعار، فقال ابن حزمٍ في «المُحلَّى»: هذه طامَّةٌ من طوامِّ العالم أن يكون مُثْلَةً شيءٌ فعله رسول الله صلعم ، أفٍّ لكلِّ عقلٍ يتعقَّب حكم رسول الله صلعم ، وهذه قولةٌ لأبي حنيفة لا نعلم(7) له فيها متقدِّمًا(8) من السَّلف ولا موافقًا(9) من فقهاء عصره إلَّا من قلَّده. انتهى. وقد ذكر التِّرمذيُّ عن أبي السَّائب قال: كنَّا عند وكيعٍ، فقال له رجلٌ: رُوِي عن إبراهيم النَّخعيِّ أنَّه قال: الإشعار مثلةٌ، فقال له وكيعٌ: أقول لك: أشعر رسول الله صلعم ، وتقول: قال إبراهيم، ما أحقَّك أن تُحبَس! انتهى. وهذا فيه ردٌّ على ابن حزمٍ؛ حيث زعم أنَّه ليس لأبي حنيفة سلفٌ في ذلك، وقد أجاب الطَّحاويُّ منتصرًا لأبي حنيفة فقال: لم يكره أبو حنيفة أصل الإشعار، بل ما يُفعَل منه(10) على وجهٍ يخاف منه(11) هلاك البدن كسراية الجرح _لا سيَّما_ مع الطَّعن بالشَّفرة، فأراد سدَّ الباب عن العامَّة لأنَّهم(12) لا يراعون الحدَّ في ذلك، وأمَّا من كان عارفًا بالسُّنَّة في ذلك فلا، وقد ثبت عن عائشة وابن عبَّاسٍ التَّخيير في الإشعار وتركه، فدلَّ على أنَّه ليس بنسكٍ. انتهى.


[1] في (م): «الموطأ».
[2] زيد في (ص): «في الشِّقِّ».
[3] «الشِّين»: مثبتٌ من (ب) و(س).
[4] «أي»: مثبتٌ من (ب) و(س).
[5] في (ص): «به».
[6] في (ص): «آذان».
[7] في (ص): «يُعلَم».
[8] في (ص): «متقدِّمٌ».
[9] في (ص): «موافقٌ».
[10] «منه»: ليس في (د) و(م).
[11] «منه»: ليس في (ص).
[12] في (د): «فإنَّهم».