إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: وما طفت ليالي قدمنا مكة؟

          1561- وبالسَّند قال: (حَدَّثَنَا عُثْمَانُ) ابن أبي شيبة قال: (حَدَّثَنَا جَرِيرٌ) بفتح الجيم ابن عبد الحميد (عَنْ مَنْصُورٍ) هو ابن المعتمر (عَنْ إِبْرَاهِيمَ) النَّخعيِّ (عَنِ الأَسْوَدِ) بن يزيد (عَنْ عَائِشَةَ ♦ ) أنَّها (قَالَتْ: خَرَجْنَا / مَعَ النَّبِيِّ صلعم ) في أشهر الحجِّ (وَلَا نُرَى) بضمِّ النُّون، أي: لا نظنُّ (إِلَّا أَنَّهُ الحَجُّ) قال الزَّركشيُّ: يحتمل أنَّ ذلك كان اعتقادها من قبل أن تُهِلَّ ثمَّ أهلَّت بعمرةٍ، ويحتمل أن تريد حكاية فعل غيرها من الصَّحابة، فإنَّهم كانوا لا يعرفون إلَّا الحجَّ، ولم يكونوا يعرفون العمرة في أشهر الحجِّ، فخرجوا محرمين بالذي لا يعرفون غيره. انتهى. وتعقَّبه الدَّمامينيُّ بأنَّ الظَّاهر غير الاحتمالين المذكورين، وهو أنَّ مرادها: لا أظنُّ أنا ولا غيري من الصَّحابة إلَّا أنَّه الحجُّ فأحرمنا به، هذا ظاهر اللَّفظ. انتهى. قلت: هذا ليس بظاهرٍ لأنَّ قولها: «لا نُرى إِلَّا أنَّه الحجُّ» ليس صريحًا في إهلالها بالحجِّ، فليُتأمَّل. نعم في رواية أبي الأسود عنها كما سيأتي إن شاء الله تعالى: «مهلِّين بالحجِّ» [خ¦1788]، ولـ «مسلمٍ»: «لبَّينا بالحجِّ» وهذا ظاهره أنَّها مع غيرها من الصَّحابة كانوا أوَّلًا محرمين بالحجِّ، لكن في رواية عروة عنها في هذا الباب: «فمنَّا مَنْ أهلَّ بعمرةٍ، ومنَّا من أهلَّ بحجَّةٍ وعمرةٍ، ومنَّا من أهلَّ بالحجِّ» [خ¦1562] فيُحمَل الأوَّل على أنَّها ذكرت ما كانوا يعهدونه من ترك الاعتمار في أشهر الحجِّ ثمَّ بيَّن لهم النَّبيُّ صلعم وجوه الإحرام، وجوَّز لهم الاعتمار في أشهر الحجِّ(1)، وأمَّا عائشة نفسها فسيأتي _إن شاء الله تعالى_ في «أبواب العمرة» [خ¦1783] وفي «حجَّة الوداع» [خ¦4408] من «المغازي» من طريق هشام بن عروة عن أبيه عنها في أثناء هذا الحديث قالت: «وكنت ممَّن أهلَّ بعمرةٍ» وقد زعم إسماعيل القاضي وغيره أنَّ الصَّواب رواية(2) الأسود والقاسم وعَمْرة عنها: أنَّها أهلَّت بالحجِّ مفردًا، ونسب عروة إلى الغلط، وأُجيب بأنَّ قول عروة عنها: «إنَّها أهلَّت بعمرةٍ» صريحٌ، وأمَّا قول الأسود وغيره عنها: «لا نرى إلَّا الحجَّ» فليس صريحًا في إهلالها بحجٍّ مفردٍ، فالجمع بينهما ما سبق من غير تغليط عروة، وهو أعلم النَّاس بحديثها، وقد وافقه جابر بن عبد الله عند مسلمٍ وطاوسٌ ومجاهدٌ عنها.
          (فَلَمَّا قَدِمْنَا) مكَّة (تَطَوَّفْنَا بِالبَيْتِ) تعني: النَّبيَّ صلعم وأصحابه غيرها لأنَّها لم تَطُفْ بالبيت ذلك الوقت لأجل حيضها (فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلعم مَنْ لَمْ يَكُنْ سَاقَ الهَدْيَ أَنْ يُـَحِلَّ) من الحجِّ بعمل العمرة، وياء «يُحِلَّ» مضمومةٌ من الإحلال، والذي في «اليونينيَّة»: بفتحها لا غير، والفاء في «فأمر» للتَّعقيب فيدلُّ على أنَّ أمره ╕ (3) بذلك كان بعد الطَّواف، وسبق أن أمرهم به بسَرِفَ، فالثَّاني تكرارٌ للأوَّل وتأكيدٌ له فلا منافاة بينهما (فَحَلَّ) بعمل العمرة (مَنْ لَمْ يَكُنْ سَاقَ الهَدْيَ) وهذا هو فسخ الحجِّ المُترجَم به‼، وجوَّزه أحمد وبعض أهل الظَّاهر، وخصَّه الأئمَّة الثَّلاثة والجمهور بالصَّحابة في تلك السَّنة كما سبق (وَنِسَاؤُهُ) ╕ (لَمْ يَسُقْنَ) الهدي (فَأَحْلَلْنَ) وعائشة منهنَّ، لكن منعها من التَّحلُّل كونها حاضت ليلة دخولها مكَّة، وكانت محرمةً بعمرةٍ وأدخلت عليها الحجَّ، فصارت قارنةً كما مرَّ (قَالَتْ عَائِشَةُ ♦ : فَحِضْتُ) بسَرِف (فَلَمْ أَطُفْ بِالبَيْتِ) طواف العمرة لمانع الحيض، وأمَّا طواف الحجِّ فقد قالت فيه _كما مرَّ_: «ثمَّ(4) خرجت من منًى فأفضت بالبيت» [خ¦1560] (فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ الحَصْبَةِ) بفتح الحاء وسكون الصَّاد المهملتين، أي: ليلة المبيت بالمُحصَّب (قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ) الأصل أن تقول: قلت، لكنَّه على طريق الالتفات (يَرْجِعُ النَّاسُ بِعُمْرَةٍ) منفردة عن حجَّةٍ (وَحَجَّةٍ) منفردةٍ عن عمرةٍ (وَأَرْجِعُ أَنَا بِحَجَّةٍ) ليس لي عمرةٌ منفردةٌ عن حجٍّ(5)، حرصت بذلك على تكثير الأفعال، كما حصل لسائر أمَّهات المؤمنين وغيرهنَّ من الصَّحابة الذين فسخوا الحجَّ إلى العمرة، وأتموُّا العمرة وتحلَّلوا منها قبل يوم التَّروية، وأحرموا بالحجِّ يوم التَّروية من مكَّة، فحصل لهم حجَّةٌ منفردةٌ وعمرةٌ منفردةٌ، وأمَّا عائشة فإنَّما حصل لها عمرةٌ مندرجةٌ في حجَّةٍ بالقِران، فأرادت عمرةً منفردةً كما حصل لبقيَّة النَّاس، ولأبي الوقت من غير «اليونينيَّة»(6): ”وأرجع أنَّا بالحجَّة“ وللكُشْمِيْهَنِيِّ في بعض النُّسخ: ”وأرجع لي بحجَّةٍ“ (قَالَ) ╕ : (وَمَا طُفْتِ لَيَالِيَ قَدِمْنَا مَكَّةَ؟) قالت عائشة: (قُلْتُ: لَا، قَالَ) ╕ : (فَاذْهَبِي مَعَ أَخِيكِ) عبد الرَّحمن (إِلَى التَّنْعِيمِ، فَأَهِلِّي) أي: أحرمي (بِعُمْرَةٍ) أمرها بذلك تطييبًا لقلبها (ثُمَّ مَوْعِدُكِ كَذَا وَكَذَا) في / الرِّواية السَّابقة في «باب قول الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ}»: «ثمَّ ائتيا ههنا» [خ¦1560] أي: المُحصَّب (قَالَتْ صَفِيَّةُ) بنت حُيَيٍّ أمُّ المؤمنين ♦ : (مَا أُرَانِي) بضمِّ الهمزة؛ أي(7): ما أظنُّ نفسي (إِلَّا حَابِسَتَهُمْ) بالنَّصب، أي: القوم عن المسير إلى المدينة لأنِّي حضت ولم أطف بالبيت، فلعلَّهم بسببي يتوقَّفون إلى زمان طوافي بعد الطَّهارة، وإسناد الحبس إليها مجازٌ، وفي نسخةٍ: ”حابستكم“ بكاف الخطاب، وكانت صفيَّة(8) كما سيأتي _إن شاء الله تعالى_ قد حاضت ليلة النَّفر فأراد النَّبيُّ صلعم منها ما يريد الرَّجل من أهله، وذلك قبيل وقت النَّفر لا عقب الإفاضة، قالت عائشة: يا رسول الله، إنَّها حائضٌ [خ¦1762].
          (قَالَ) ╕ : (عَقْرَى حَلْقَى) بفتح الأوَّل وسكون الثَّاني فيهما، وألفهما مقصورةٌ للتَّأنيث، فلا يُنوَّنان ويُكتبَان بالألف، هكذا يرويه المحدِّثون حتَّى لا يكاد يُعرَف غيره، وفيه خمسة أوجهٍ:
          أوَّلها(9): أنَّهما وصفان لمُؤنَّثٍ بوزن «فَعْلَى» أي: عقرها الله في جسدها وحلقها، أي: أصابها وجعٌ في حلقها أو حلق شعرها‼، فهي معقرةٌ محلوقةٌ، وهما مرفوعان خبرا مبتدأٍ محذوفٍ(10)، أي: هي.
          ثانيها: كذلك، إلَّا أنَّهما بمعنى: «فاعلٍ» أي: أنَّها تعقر قومها وتحلقهم بشؤمها، أي: تستأصلهم، فكأنَّه وصفٌ من فعلٍ متعدٍّ، وهما مرفوعان أيضًا بتقدير: هي، وبه قال الزَّمخشريُّ.
          ثالثها: كذلك، إلَّا أنَّه جمعٌ كجريحٍ وجرحى، أي: ويكون وصف المفرد بذلك مبالغةً.
          رابعها: أنَّه وصف فاعل لكن بمعنى: لا تلد كعاقر، وحلقى، أي: مشؤومةٌ، قال الأصمعيُّ: يُقال: أصبحت أمُّه حالقًا، أي: ثاكلًا.
          خامسها: أنَّهما مصدران كـ «دعوى»، والمعنى: عقرها الله وحلقها، أي: حلق شعرها أو أصابها بوجعٍ(11) في حلقها _كما سبق_ قاله في «المحكم»، فيكون منصوبًا بحركةٍ مُقدَّرةٍ على قاعدة المقصور، وليس بوصفٍ.
          وقال أبو عبيدة: الصَّواب: عقرًا حلقًا بالتَّنوين فيهما، قِيَل له: لِمَ لا يجوز «فعلى»؟ قال: لأنَّ «فعلى» يجيء نعتًا ولم يجئ في الدُّعاء، وهذا دعاءٌ، وقال في «القاموس»: عقرى وحلقى ويُنوَّنان، وفي «الصِّـَحاح»: وربَّما قالوا: عقرى وحلقى بلا تنوينٍ، وحاصله: جواز الوجهين، فالتَّنوين على أنَّه مصدرٌ منصوبٌ كـ «سقيا»، وتركه إمَّا(12) على أنَّه مصدرٌ كما في «المحكم»، أو وصفٌ على بابه، فيكون مرفوعًا كما مرَّ، فالجملة على هذا خبريَّةٌ، وعلى ما قبله دعائيَّةٌ، وفي «القاموس» _كـ «المحكم»_: إطلاق العقرى على الحائض، وكأنَّ(13) العقر بمعنى: الجرح لما كان فيه سيلان دمٍ، سُمِّي سيلان الدَّم بذلك، وعلى كلِّ تقديرٍ فليس المراد حقيقة ذلك لا في الدُّعاء ولا في الوصف، بل هي كلمةٌ اتَّسعت فيها العرب، فتطلقها ولا تريد حقيقة معناها، فهي كـ «تربت يداه»، ونحو ذلك.
          (أَوَمَا طُفْتِ يَوْمَ النَّحْرِ؟) طواف الإفاضة (قَالَتْ) صفيَّة: (قُلْتُ: بَلَى) طفت (قَالَ) ╕ : (لَا بَأْسَ، انْفِرِي) بكسر الفاء، أي: ارجعي واذهبي إذ طواف الوداع ساقطٌ عن الحائض (قَالَتْ عَائِشَةُ ♦ : فَلَقِيَنِي النَّبِيُّ صلعم ) بالمُحصَّب (وَهُوَ مُصْعِدٌ) بضمِّ أوَّله وكسر ثالثه(14)، أي: مبتدئ السَّير (مِنْ مَكَّةَ، وَأَنَا مُنْهَبِطَةٌ عَلَيْهَا، أَوْ أَنَا مُصْعِدَةٌ وَهْوَ مُنْهَبِطٌ مِنْهَا) بالشَّكِّ من الرَّاوي، والواو في: «وهو» «وأنا» للحال.
          ورواة هذا الحديث كلُّهم كوفيُّون، وأخرجه البخاريُّ [خ¦1762] أيضًا، ومسلمٌ في «الحجِّ»، وكذا أبو داود والنَّسائيُّ.


[1] قوله: «بيَّن لهم النَّبيُّ صلعم وجوه... في أشهر الحجِّ» سقط من (ص).
[2] زيد في غير (د) و(م): «أبي»، وليس بصحيحٍ، وكذا في المواضع اللَّاحقة.
[3] في (د): «مراده ◙ ».
[4] «ثمَّ»: ليس في (م).
[5] في (د): «حجَّةٍ».
[6] «من غير اليونينيَّة»: ليس في (م).
[7] «أي»: ليس في (د).
[8] في (ص) و(م): «حفصة».
[9] في (ص): «الأوَّل».
[10] «محذوفٍ»: مثبتٌ من (ب) و(س).
[11] في (د): «وجعٌ»، وفي (م): «توجُّعٌ».
[12] «إمَّا»: ليس في (د).
[13] في (د): «وقال».
[14] في (ب) و(س): «ثانيه»، وليس بصحيحٍ.