شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب إسباغ الوضوء

          ░6▒ باب إِسْبَاغ الْوُضُوءِ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: الإِسْبَاغُ الإنْقَاءُ.
          فيه: أُسَامَةُ قَالَ: (دَفَعَ رَسُولُ اللهِ صلعم مِنْ عَرَفَةَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالشِّعْبِ نَزَلَ فَبَالَ، ثُمَّ تَوَضَّأَ وَلَمْ يُسْبِغِ الْوُضُوءَ فَقُلْتُ: الصَّلاةَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: الصَّلاةُ أَمَامَكَ، فَرَكِبَ، فَلَمَّا جَاءَ الْمُزْدَلِفَةَ نَزَلَ فَتَوَضَّأَ فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلاةُ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ، ثُمَّ أَنَاخَ كُلُّ إِنْسَانٍ بَعِيرَهُ في مَنْزِلِهِ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الْعِشَاءُ فَصَلَّى، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا). [خ¦139]
          قال المُهَلَّب: قوله (فتَوَضَّأَ وَلَمْ يُسْبِغِ الْوُضُوءَ) يريد توضأ مرة سابغة، وقد رواه إبراهيم بن عقبة عن كريب قال: ((فتوضأ وضوءًا ليس بالبالغ)) وإنما فعل ذلك والله أعلم لأنه أعجله دفعُه الحاج إلى المزدلفة، فأراد أن يتوضأ وضوءًا يرفع به الحدث لأنه كان ◙ لا يبقى بغير طهارة ذكره مسلم في هذا الحديث، وقد جاء في باب الرجل يوضئ صاحبه هذا الحديثُ مبينًا، قال أسامة: ((إن رسول الله صلعم عدل إلى الشِّعب فقضى حاجته، فجعلت أصب عليه ويتوضأ)) ولا يجوز أن يصب عليه إلا وضوء الصلاة لا وضوء الاستنجاء كما زعم من فسر قوله (وَلَمْ يُسْبِغِ الْوُضُوءَ) أنه استنجى فقط، وهذا لا يجوز على رسول الله صلعم لأنه كان لا يقرب منه أحدٌ وهو على حاجته، والدليل على صحة ما تأولناه قول أسامة لرسول الله صلعم حين صب عليه الماء: (الصَّلاةَ يَا رَسُولَ اللهِ) لأنه محال أن يقول له الصلاة ولم يتوضأ وضوء الصلاة.
          وقوله: (الصَّلاةُ أَمَامَكَ) أي سنة الصلاة لمن دفع عن عرفة أن يصلي المغرب والعشاء بالمزدلفة وإن تأخر الأمر عن العادة، ولم يعلم أسامة أن سنة الصلاة بالمزدلفة(1) إذ كان ذلك في حجة الوداع، وهي أول سنة سنها رسول الله صلعم في الجمع بين الصلاتين بالمزدلفة(2)، فلما أتى المزدلفة أسبغ الوضوء صلعم(3) أخذًا(4) بالأفضل والأكمل على عادته في سائر الأيام، وقال أبو الزناد: توضأ ولم يسبغ ليذكر الله ╡ لأنهم يكثرون ذكر الله عند الدفع من عرفة، وقال غيره: وقوله (الصَّلاةَ يَا رَسُولَ اللهِ) فيه من الفقه أن الأدونَ قد يُذَكِّر الأعلى، وإنما خشي أسامة أن ينسى الصلاة لما كان فيه من الشغل، فأجابه ◙ أن للصلاة تلك الليلة موضعًا لا يتعدَّى إلا من ضرورة مع أن ذلك كان في سفر، ومن سنته ◙ أن يجمع بين صلاتي ليلِهِ وصلاتي نهارِهِ(5) في وقت إحداهما، ولم يختلف العلماء أن الجمع بين الصلاتين بالمزدلفة سنة مؤكدة لمن دفع مع الإمام أو بعده، قال المُهَلَّب: وفيه اشتراك وقت صلاة المغرب والعشاء وأن وقتهما واحد.
          وقوله: (صَلَّى(6) الْمَغْرِبَ والعِشَاءَ وَلم يُصَلِّ بَينَهُما) فيه حجة لمن لا(7) يتنفل في السفر، وكذلك قال ابن عمر: لو تنفلت لأتممت يعني في السفر، وقال غيره: ليس في ترك التنفل بين الصلاتين في وقت جمعِهما ما يدل على ترك النافلة في السفر لأنه إذا جمع بينهما فلا مدخل للنافلة هناك لأن الوقت بينهما لا يتسع لذلك، ألا ترى أن من أهل العلم من يقول: لا يحطون رواحلهم تلك الليلة حتى يجمعوا(8)، ومنهم من يقول: يصلون الأولى ثم يحطون رواحلهم مع ما في ترك الرواحل بأوقارها مما نهي عنه من تعذيبها، وأما ترك التنفل في السفر فإن ابن عمر لم يتابع على قوله في ذلك، والفقهاء متفقون على اختيار التنفل(9) في السفر، وقد تنفل رسول الله صلعم(10) راجلًا وراكبًا.


[1] في (م): ((في المزدلفة)).
[2] في (م): ((في المزدلفة)) ومن قوله: ((ولم يعلم أسامة أن سنة الصلاة بالمزدلفة إذ كان ذلك في حجة الوداع، وهي أول سنة سنها رسول الله صلعم في الجمع بين الصلاتين بالمزدلفة)) ذكرها في (م) في الحاشية وكتب فوقها: ((ليس من الأصل)).
[3] قوله: ((صلعم)) ليس في (ص).
[4] في (م): ((آخذًا)).
[5] في (م): ((بين صلاتي ليلِهِ ونهارِهِ)).
[6] في (م): ((وصلى)).
[7] في (م): ((لم)).
[8] في (م) و (ص): ((يجمعون)).
[9] في (م): ((والفقهاء مجمعون على جواز التنفل)).
[10] زاد في (م): ((في سفره))، وقوله: ((صلعم)) ليس في (ص).