شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: إذا أدخل رجليه وهما طاهرتان

          ░49▒ باب إِذَا أَدْخَلَ رِجْلَيْهِ وَهُمَا طَاهِرَتَانِ.
          فيه: الْمُغِيرَةُ: (كُنْتُ مَعَ النبي صلعم في سَفَرٍ، فَأَهْوَيْتُ لأنْزِعَ خُفَّيْهِ فَقَالَ: دَعْهُمَا فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ، فَمَسَحَ عَلَيْهِمَا). [خ¦206]
          قال المؤلف: من هذا الحديث قال مالك وجميع الفقهاء أنه(1) من لبس خفيه على غير طهارة أنه لا(2) يمسح عليهما لقوله: (دَعْهُمَا فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ، وَمَسَحَ(3) عَلَيْهِمَا) وهذا تعليم منه صلعم السبب الذي يبيح المسح على الخفين، وهو إدخاله لرجليه وهما طاهرتان بطهر الوضوء، واختلفوا فيمن قدم غسل رجليه ولبس خفيه، ثم أتم وضوءه هل له أن يمسح عليهما إن أحدث؟ فقال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق: لا يجوز له أن يمسح عليهما حتى يكون طاهرًا الطهارة التامة قبل لبسهما أو(4) لبس أحدهما، وحجتهم ظاهر(5) الحديث، وقال أبو حنيفة والثوري والمزني: يجوز له المسح عليهما، وكذلك إذا غسل إحدى رجليه ولبس، وهو قول مُطَرِّف من أصحاب مالك، وحديث المغيرة يرد هذا القول(6) لقوله: (دَعْهُمَا فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ) فجعل العلة في جواز المسح وجود اللبس والرجلان طاهرتان بطهر الوضوء، واحتج الطحاوي للكوفيين فقال: يجوز أن يقال: إن رجليه طاهرتان إذا غسلهما وإن لم تكمل الطهارة كما يقال: صلى ركعة، وإن لم تتم صلاته، وقال آخرون(7) منهم: وإنما(8) يراعى الحدث، والحدث لا يرِد إلا على طهارة كاملة فهو كمن لم يقدم رجليه، وحجة مالك أن من لبس خفيه قبل كمال طهارته فكأنه لبسهما قبل غسل الرجلين بدليل الحديث.
          ومن هذه المسألة تفرع الجواب فيمن لبس الخف اليمنى قبل أن يغسل الرجل اليسرى، فعند مالك والشافعي وأحمد وإسحاق: لا يمسح لأنه لبس الخف الأولى قبل تمام طهارته(9)، وقال الثوري وأبو حنيفة والمزني: يجوز له أن يمسح عليهما، وهو قول مُطَرِّف، وقال سحنون: لا يمسح إلا أن يخلع اليمنى فقط، وأجمعوا أنه لو نزع الخف الأولى ثم لبسهما بعد جاز له المسح، واختلفوا فيمن نزع(10) خفيه بعد المسح عليهما، فقال النَّخَعِي ومكحول والأوزاعي في رواية: يعيد الوضوء، وهو قول أحمد وإسحاق، وقال الكوفيون والمزني وأبو ثور: يغسل قدميه، وعن الأوزاعي مثله، واختلف قول الشافعي مثل قول الأوزاعي، فمرة قال: يتوضأ، ومرة قال: يغسل قدميه، وقال مالك والليث: يغسل رجليه مكانه، فإن تطاول أعاد الوضوء، وقال الحسن البصري وابن أبي ليلى وقَتادة ورواية عن النَّخَعِي: إذا نزع خفيه بعد المسح صلى، وليس عليه شيء، وحجة هذا القول الإجماع على أنه من مسح برأسه في الوضوء ثم حلقه أنه لا يستأنف مسحه فكذلك رجليه، وإن نزع أحد خفيه بعد المسح فقال مالك والليث والكوفيون والأوزاعي والشافعي: يغسل رجليه جميعًا، وروي عن الثوري أنه قال: كان بعضهم يقول: يغسل إحدى رجليه، وهي رواية المعافى(11) عن الثوري، وروى أشهب عن مالك: أنه يجزئه غسل تلك الرجل فقط، وروى عيسى عن ابن القاسم مثله(12).
          قال المُهَلَّب: وفيه المسح في السفر بغير توقيت، واختلف العلماء في ذلك، فقال مالك والليث: لا وقت للمسح على الخفين، وللمسافر والمقيم(13) / أن يمسح ما بدا له، وروي هذا عن عُمَر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص وعقبة بن عامر وابن عمر، وبه قال الحسن البصري، وقال الكوفيون والثوري(14) والأوزاعي والشافعي وأحمد: يمسح المقيم يومًا وليلة، ويمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن(15)، ورووا في ذلك آثارًا كثيرة عن النبي صلعم وصححها قوم، ودفعها آخرون، وقال عبد الرحمن بن مهدي: حديثان لا أصل لهما التوقيت في المسح والتسليمتان.
          قال المُهَلَّب: في حديث المغيرة خدمة العالم وأن للخادم أن يقصد إلى ما يعرف من خدمته دون أن يأمر(16) بها لقوله: ((أهويت لأنزع خفيه)) قال غيره(17): وفيه إمكان الفهم عن الإشارة، ورد الجواب بالعلم على ما يفهم من الإشارة لأن المغيرة أهوى لينزع(18) الخفين، ففهم عنه ◙ ما أراد فأفتاه بأنه يجزئه المسح.


[1] في (م): ((أن)).
[2] في (م): ((على غير الوضوء لا)).
[3] في (م): ((فمسح)).
[4] في (م): ((و)).
[5] زاد في (م): ((هذا)).
[6] في (م): ((يرد قولهم)).
[7] في (م): ((آخر)).
[8] في (م): ((إنما)).
[9] في (م): ((الأول قبل كمال طهارته)).
[10] في (م): ((خلع)).
[11] في المطبوع: ((المعافري)).
[12] في (م): ((وروى مثله عيسى عن ابن القاسم))، وقوله: ((وروى أشهب...عن ابن القاسم مثله)) ليس في (ص).
[13] في (م): ((وللمقيم والمسافر)).
[14] في (م): ((وقال الثوري والكوفيون)).
[15] في (م): ((بلياليهن)).
[16] في (م): ((يأمره)).
[17] قوله: ((غيره)) ليس في (ص).
[18] في (م): ((لنزع)).