شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب فضل الوضوء والغر المحجلون من آثار الوضوء

          ░3▒ باب فَضْل الْوُضُوءِ وَالْغُرِّ الْمُحَجَّلينَ مِنْ آثَارِ(1) الْوُضُوءِ.
          فيه: نُعَيْم الْمُجْمِرِ(2) قَالَ: رَقِيتُ مَعَ أبي هُرَيْرَةَ على ظَهْرِ الْمَسْجِدِ فَتَوَضَّأَ ثم قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رسول الله صلعم يَقُولُ: (إِنَّ أُمَّتِي يُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ). [خ¦136]
          قال أبو محمد الأصيلي: هذا الحديث يدل أن هذه / الأمة مخصوصة بالوضوء من بين سائر الأمم والله أعلم(3)، قال غيره: وإذا تقرر هذا بطل ما روي عن النبي صلعم: ((أنه توضأ ثلاثًا ثلاثًا، وقال: هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي)) وهو حديث لا يصح سنده، ومداره على زيد العَمِّي عن معاوية بن قُرَّة عن ابن عمر، وزيد ضعيف.
          وقوله ◙(4): (فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ) تأوله أبو هريرة على الزيادة على حد الوضوء، فكان يتوضأ إلى نصف ساقيه وإلى منكبيه ويقول: إني أحب أن أطيل غرتي، وربما قال: هذا موضع(5) الْحِلية، وهذا شيء لم يُتابَع عليه أبو هريرة، والمسلمون مجمعون على أنه لا يتعدى بالوضوء ما حدَّ(6) الله ورسوله، وقد كان رسول الله صلعم وهو أبدر الناس إلى الفضائل وأرغبهم فيها لم يتجاوز(7) قط موضع(8) الوضوء فيما بلغنا، ويُحتج على أبي هريرة بقوله تعالى: {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}[الطلاق:1]وروى سفيان عن موسى بن أبي عائشة عن عَمْرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلًا سأل النبي صلعم عن الوضوء، فدعا بماء فتوضأ ثلاثًا ثلاثًا وقال: ((هكذا الطهور، فمن زاد على هذا فقد تعدَّى وظلم)) ويحمل قوله صلعم(9): (فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ) يعني يديمها، فالطول والدوام بمعنى متقارب أي من استطاع أن يواظب على الوضوء لكل صلاة فإنه يطيل(10) غرته أي يقوِّي(11) نوره ويتضاعف بهاؤه، فَكَنَّى بالغرة عن نور الوجه(12) يوم القيامة، وقال أبو الزناد: قوله (فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ) فإنه كنى بالغرة عن الحِجلة لأنَّ أبا هريرة كان يتوضأ إلى نصف ساقيه(13)، والوجه فلا سبيل إلى الزيادة في غسله، فكأنه _والله أعلم_ أراد الحجلة فكنى بالغرة عنها.
          وفيه جواز الوضوء على ظهر المسجد وهو من باب الوضوء في المسجد، وقد كرهه قوم وأجازه الأكثر، وإنما ذلك تنزيه للمسجد كما ينزه عن البصاق والنخامة، وحرمة أَعلى المسجد كحرمة داخله، وممن أجاز الوضوء في المسجد ابن عباس وابن عمر وعطاء والنخعي وطاوس وهو قول ابن القاسم صاحب مالك وأكثر العلماء، وكرهه ابن سيرين وهو قول مالك وسُحنون، وقال ابن المنذر: إذا توضأ في مكان(14) من المسجد يبلُّه ويتأذى به الناس فإني أكرهه، وإن فحص عن الحصَى وردَّهُ عليه فإني لا أكرهه، وكذلك كان يفعل عطاء وطاوس.


[1] في (م): ((أثر)).
[2] قوله ((المجمر)) ليس في (م).
[3] قوله: ((والله أعلم)) ليس في (ص).
[4] قوله: ((◙)) ليس في (ص).
[5] في (م): ((مبلغ)).
[6] في (ص): ((حدَّه)).
[7] في (ص): ((يجاوز)).
[8] في (م): ((مواضع)).
[9] قوله: ((صلعم)) ليس في (ص).
[10] في (م): ((تطول)).
[11] في (م): ((يَقوى)).
[12] في (م): ((الوجوه)).
[13] في (م): ((ساقه)).
[14] في (م): ((موضع)).