شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب ما جاء في الوضوء

          ░1▒ باب مَا جَاءَ فِي الْوُضُوءِ وَقَوْلِ اللهِ ╡:(1){إِذَا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إلى الْكَعْبَيْنِ}[المائدة:6].
          قَالَ أَبُو عَبْد اللهِ(2): وَبَيَّنَ النبي صلعم(3) أَنَّ فَرْضَ الْوُضُوءِ مَرَّةً مَرَّةً، وَتَوَضَّأَ أَيْضًا مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ وَثَلاثًا ثَلاثًا وَلَمْ يَزِدْ على ثَلاثٍ(4)، وَكَرِهَ أَهْلُ الْعِلْمِ الإسْرَافَ فِيهِ وَأَنْ يُجَاوِزُوا فِعْلَ النبي صلعم.
          قال المؤلف(5): قال الطحاوي وغيره(6): اختلف أهل العلم في القيام المذكور في هذه الآية فقال بعضهم: كل قائم إلى صلاة مكتوبة فقد وجب عليه الوضوء قبل قيامه إليها، قالوا: وهذا(7) كقوله تعالى: / {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}[النحل:98]أي إذا أردت أن تقرأ القرآن فاستعذ بالله، وروَوْا ذلك عن علي بن أبي طالب منقطعًا، وروى(8) شعبة عن مسعود بن علي أن علي بن أبي طالب كان يتوضأ لكل صلاة ويتلو: {إِذَا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجوهَكم وأيدِيَكم(9)}[المائدة:6]الآية، وممن كان يتوضأ لكل صلاة وإن كان طاهرًا ابن عمر وعبيد بن عمير وعكرمة وابن سيرين، وقال جمهور أهل العلم: ليس على من أراد القيام إلى صلاة مكتوبةٍ أن يتوضأ إلا أن يكون محدثًا فيتوضأ لحدثه لأنه إذا كان متوضئًا للصلاة فلا معنى لتوضئه وضوءًا لا يخرجه من حدث إلى طهارة.
          وممن روي عنه الجمع بين صلوات بوضوء واحد سعد بن أبي وقاص وأبو موسى الأشعري وأنس بن مالك وابن عباس، إلا أن بعض أهل(10) هذه المقالة قالوا: إن الوضوء لكل صلاة نُسِخَ بما رواه الثوري عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: صلَّى رسول الله صلعم(11) يوم فتح مكة خمس صلوات بوضوء واحد، فقال له عمر: ما هذا يا رسول الله؟ فقال: ((عمدًا صنعته يا عمر)) وبما روى ابن وهب عن ابن جُريج عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله: ((أن امرأة من الأنصار دعت رسول الله صلعم إلى شاة مصلية ومعه أصحابه، فصلى الظهر والعصر بوضوء واحد)) وقال أكثر أهل هذه المقالة: إن جَمْع النبي(12) صلعم الصلوات بوضوء واحد يوم الفتح وعند المرأة التي دعته للشاة المصلية لم يكن ناسخًا لِمَا تقدم من وضوئه ◙ لكل صلاة، وإنما بيَّن بفعله يوم الفتح أن وضوءه لكل صلاة كان من باب الفضل والازدياد في الأجر، فمن اقتدى به في ذلك فله فيه الأسوة الحسنة، قالوا: ومما يدل على صحة ذلك ما رواه(13) ابن وهب عن عبد الرحمن بن زياد عن أبي غُطَيف(14) الهذلي قال: صليت مع ابن عمر الظهر والعصر والمغرب، فتوضأ لكل صلاة، فقلت له: ما هذا؟ فقال: ليست بسنةٍ(15) ولكني سمعت رسول الله صلعم يقول: ((من توضأ على طهر كتب(16) له عشر حسنات)) فبان بما ثبت عنه ◙ من سنته أن الوضوء لا يجب إلى القيام للصلوات إلا عن الأحداث الموجبة للطهارة، وهذا(17) قول مالك والثوري وأبي حنيفة وأصحابه والأوزاعي والشافعي وعامة فقهاء الأمصار ومن بعدهم إلى وقتنا هذا.
          وقوله: (وَبَيَّنَ رسول الله صلعم(18) أَنَّ فَرْضَ الْوُضُوءِ مَرَّةً مَرَّةً) وذلك أنه ◙ صلى به فَعُلِمَ أنه الفرض إذ لا يَنْقُصُ ◙ من فرضه، وهو الْمُبَيِّن عن الله تعالى(19) لأمته دينهم، ووضوؤه ◙ مرتين وثلاثًا هو من باب الرفق بأمته والتوسعة عليهم ليكون لمن قصر في المرة(20) الواحدة عن(21) عموم غسل أعضاء الوضوء أن يستدرك ذلك في المرة الثانية والثالثة، ومن أكملَ أعضاءَه(22) في المرة الواحدة فهو مخير في الاقتصار عليها أو الزيادة على المرة الواحدة، وكان تنويع وضوئه ◙ من باب التخيير كما ورد التخيير في كفارات الأَيْمَان بالله ╡(23) وعقوبة المحاربين.
          وقال أبو الحسن(24) بن القصار: نسق الأعضاء في الآية بالواو بعضها على بعض دليل أن الرتبة غير واجبة في الوضوء لأن حقيقة الواو في لسان العرب الجمع والاشتراك دون التعقيب والتقديم والتأخير، هذا قول سيبويه، واختلف العلماء في ذلك، فروي عن علي وابن مسعود وابن عباس أنهم قالوا: لا بأس أن تبدأ برجليك قبل يديك في الوضوء، وهذا(25) قول عطاء وسعيد بن المسيب والنخعي وإليه ذهب مالك والليث والثوري وسائر الكوفيين والأوزاعي والمزني، وقال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور: لا يجزئه الوضوء غير مرتب حتى يغسل كلًّا في موضعه، واحتجوا بأن الواو قد تكون للترتيب كقوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا}[الحج:77]وقوله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللهِ}[البقرة:158]وقوله صلعم: ((نبدأ بما بدأ الله به))، فأجابهم أهل المقالة الأولى وقالوا(26): إنا لا ننكر إذا صحب الواوَ بيانٌ يدل على التقدمة أنها تصير إليه بدلالته(27) وإلا فالظاهر أن موضعها للجمع، ولو كانت الواو توجب رتبة لما احتاج ◙ أن يبين(28) الابتداء بالصفا، وإنما بيَّن ذلك إعلامًا لمراد الله تعالى من الواو في ذلك الموضع، وليس وضوؤه ◙(29) على نسق الآية أبدًا بيانًا لمراد الله تعالى من آية الوضوء كبيانه لركعات الصلوات لأن آية الوضوء بينة مستغنية عن البيان والصلوات مختلفة(30) مفتقرة إليه، ومما جاء في القرآن مما لا توجب(31) الواو فيه النسق(32) قوله ╡: / {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ}[البقرة:196]فبدأ بالحج قبل العمرة وجائز عند الجميع أن يعتمر الرجل قبل أن يحج، وكذلك قوله: {وَأَقِيمُواْ(33) الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ}[البقرة:110]جائز لمن وجب عليه إخراج زكاة في حين صلاة(34) أن يبدأ بالزكاة ثم يصلي الصلاة في وقتها عند الجميع(35)، وكذلك قوله في قتل الخطأ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ}[النساء:92]لا يختلف العلماء أن من وجب عليه إعطاء الدية وتحرير الرقبة أن يعطي الدية قبل تحرير الرقبة، ومثله كثير في القرآن وكلام العرب، لو قال: أعط زيدًا وعمرًا دينارًا تبادر الفهم من ذلك الجمع بينهما في العطاء، ولم يفهم منه تقديم(36) أحدهما على الآخر في العطاء.


[1] زاد في (م): ((يا أيها الذين آمنوا))، في (ص): ((كتاب الوضوء، وفي قول الله)).
[2] قوله ((أبو عبد الله)) ليس في (م).
[3] في (ص): ((الرسول ◙)).
[4] في (ص): ((الثلاث)).
[5] قوله ((قال المؤلف)) ليس في (م).
[6] قوله: ((وغيره)) ليس في (ص).
[7] في (م): ((وهو)).
[8] في (م): ((روى)).
[9] قوله: ((وجوهكم وأيديكم)) ليس في (ص).
[10] قوله: ((أهل)) زيادة من (م).
[11] قوله: ((صلعم)).
[12] في (ص): ((الرسول)).
[13] في (م): ((روى)).
[14] في (ز): ((عطية)) والمثبت من (م).
[15] في (م): ((سنة)).
[16] في (م): ((كتبت)).
[17] في (م): ((وهو)).
[18] قوله: ((صلعم)) ليس في (ص).
[19] قوله: ((تعالى)) ليس في (ص).
[20] صورتها في (ز): ((المدة)).
[21] في (ص): ((من)) ونبه إلى المثبت في نسخة.
[22] في (م): ((أعضاء الوضوء)).
[23] قوله: ((╡)) ليس في (ص).
[24] قوله ((أبو الحسن)) ليس في (م).
[25] في (م): ((وهو)).
[26] في (ص): ((فقالوا)).
[27] في (ص): ((بدلالة)).
[28] في (ص): ((إلى تبيين)).
[29] قوله: ((◙)) ليس في (ص).
[30] في (م): ((مجملة)).
[31] في (ص): ((يوجب)).
[32] في (م): ((الواو النسق فيه)).
[33] في (م) و (ص): ((أقيموا)).
[34] في (م): ((صلاته)).
[35] قوله: ((عند الجميع)) ليس في (ص).
[36] في (م): ((تقديمه)).