شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الوضوء من النوم

          ░53▒ بَابُ: الوُضُوءِ مِنَ النَّوم وَمَنْ لَمْ يَرَ مِنَ النَّعْسَةِ وَالنَّعْسَتَيْنِ وَالخَفْقَةِ وُضُوءًا.
          فيهِ: عَائِشَةُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم قَالَ: (إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ يُصَلِّي فَلْيَرْقُدْ حتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ النَّوْمُ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا صَلَّى وَهُوَ نَاعِسٌ(1) لَعَلَّهُ يَسْتَغْفِرُ فَيَسُبُّ نَفْسَهُ). [خ¦212]
          وفيهِ: أَنَسٌ أنَّ النَّبيَّ صلعم قَالَ: (إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ(2) في الصَّلاة فَلْيَنَمْ حتَّى يَعْلَمَ مَا يَقْرَأُ(3)). [خ¦213]
          قالَ المُهَلَّبُ: قوله صلعم: (إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَرْقُد) هو في صلاة اللَّيل؛ لأنَّ صلوات الفرض ليست مِن نهاية(4) الطُّول ولا في أوقات النَّوم فيحدث فيها مثل هذا، وقد ذكر ◙ العلَّة الموجبة لقطع الصَّلاة، وذلك أنَّه خاف ◙ إذا غلب عليه النَّوم(5) أن يخلط الاستغفار بالسَّبِّ. قالَ المُهَلَّبُ: ومَن صار في مثل هذه الحال مِن ثِقَلِ النَّوم فقد انتقض وضوءه وصلاته(6) بإجماع، فأشبه(7) مَن نهاه الله ╡ عن مقاربة(8) الصَّلاة في حال السُّكر بقوله تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ}[النِّساء:43]، وقد قال الضَّحَّاك في تأويل قوله تعالى: {وَأَنتُمْ سُكَارَى} أنَّه النَّوم، والأكثر أنَّها نزلت في سكر الخمر، وبَيَّنَ(9) حديث عَائِشَةَ وحديث أَنَسٍ في هذا(10) أنَّ المعنى(11) واحدٌ؛ لأنَّ مَن أراد أن يستغفر ربَّه وسَبَّ(12) نفسه، فقد حصل من فقد العقل في مثل(13) منزلة من(14) يعلم ما يقول مِن سكر الخمر الَّتي نهى الله تعالى عن مقاربة الصَّلاة فيها(15)، ومَن كان كذلك فلا تجوز صلاته؛ لأنَّه(16) فقد عقله الَّذي خاطب الله أهله بالصَّلاة والفرائض، ورفع الخطاب بذلك والتَّكليف عمَّن عدمه. ودلَّت الآية على ما دلَّ عليه الحديثان، أنَّه لا ينبغي للمُصَلِّي أن يقرب الصَّلاة مع شاغلٍ له عنها، أو حائلٍ بينه وبينها لتكون همَّه(17) لا همَّ له غيرها، وأنَّ من استثقل نومه فعليه الوضوء، وهذا يدلُّ أنَّ النَّوم اليسير بخلاف ذلك.
          وأجمع الفقهاء على أنَّ النَّوم القليل(18) الَّذي لا يُزيل العقل لا ينقض الوضوء، إلَّا المُزَنِيَّ وحدَه(19)، فإنَّه جعل قليل النَّوم وكثيره حدثًا، وخرَق الإجماع، وكذلك أجمعوا على(20) أنَّ نَوم المضطجع ينقض الوضوء. واختلفوا في هيئات النَّائمين، فقال مالكٌ: مَن نام قائمًا(21) أو راكعًا أو ساجدًا فعليه الوضوء، وفرَّق الشَّافعيُّ بين نومه في الصَّلاة وغيرها، فقال: إن كان في الصَّلاة لا(22) ينقض، كما لا ينقض نوم القاعد، وله قولٌ آخر كقول مالكٍ.
          وعند الثَّوْرِيِّ وأبي حنيفةَ: لا ينقض الوضوء إلَّا نوم المضطجع فقط، واحتَجُّوا بما روى أبو خالدٍ الدَّالَانِّيُّ، عن قَتَادَةَ، عن أبي العَالِيَةِ، عن ابنِ عبَّاسٍ: ((أنَّ النَّبيَّ صلعم نَامَ في سُجُودِهِ وَنَفَخَ، فَقِيْلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، نِمْتَ في سُجُوْدِكَ وَصَلَّيْتَ، وَلَمْ تَتَوَضَّأْ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا الوُضُوْءُ عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا))، وهذا حديثٌ منكرٌ، قد ضعَّفه(23) ابنُ حَنْبَلٍ وأبو داودَ، وقال أحمدُ: ما لأبي خَالِدٍ يُدْخِلُ نفسه في أصحابِ قَتَادَةَ، ولم يَلْقَهُ؟ وأيضًا لم(24) يروه أَحَدٌ مِن(25) أصحابِ قَتَادَةَ عنه، وقيل: لم يسمع قَتَادَةُ من أبي العَالِيَةِ إلَّا أربعة(26) أحاديث ليس هذا منها. والقائم والرَّاكع والسَّاجد يمكن خُرُوج الرِّيح منه، لانفراج موضع الحدَث منه، ولا يشبه القاعد المنضمَّ الأطراف إلَّا أنْ يطول نَومه جدًّا في حال قُعُوده(27)، فعليه الوضوء عند مالكٍ والأوزاعيِّ وأحمدَ، ولم يفرِّق أبو حنيفةَ والشَّافعيُّ(28) بين نوم الجالس في القِلَّةِ والكَثْرَة، وقالا: لا ينتقض وضوءه وإنْ طال. ويردُّ قولهم: أنَّه إذا طال نومه جدًّا في حال قعوده فهو شاكٌّ في الطَّهارة، وقد أُخِذَ عليه أن يدخل(29) الصَّلاة بيقين طهارةٍ، / وهذا قد زال يقينه، فعليه الوضوء، وسيأتي إنْ شاء الله(30) في كتابِ الصَّلاةِ في بابِ النَّومِ قبلَ العِشَاءِ لمنْ غُلِبَ عليه(31) شيءٌ مِن معنى هذا الباب(32) [خ¦9/24-916]. قال عبدُ الواحدِ(33): فإن قال قائلٌ: فمن أين يخرج من هذا الباب قوله في التَّرجمة: ومن لم يرَ من النَّعسة والنَّعستين والخفقة وضوءًا؟ قيل له: يخرج من معنى الحديث؛ لأنَّه لمَّا أوجب ◙ قطع الصَّلاة بغلبة النَّوم والاستغراق فيه دلَّ أنَّه إذا كان النُّعاس أقلَّ من ذلك ولم يغلب عليه أنَّه يعفو(34) عنه، لا وضوء فيه، على ما يذهب(35) إليه الجمهور(36).


[1] في المطبوع و(ص): ((راقد)). زاد في (ص): ((لا يدري)).
[2] زاد في (م): ((وهو)).
[3] في (ص): ((يقول)).
[4] قوله ((نهاية)) ليس في (م).
[5] في (م): ((وذلك أنَّه إذا خاف عليه إذا غلبه النَّوم)).
[6] قوله: ((وصلاته)) ليس في (م) و(ص).
[7] في (م): ((وأشبه)).
[8] في (م): ((بمقاربة)).
[9] زاد في (ص): ((في)).
[10] زاد في (م): ((الباب)).
[11] زاد في (م): ((في ذلك)).
[12] في المطبوع: ((فيسبَّ)).
[13] قوله ((مثل)) ليس في المطبوع و(ص).
[14] زاد في المطبوع و(م) و(ص): ((لا)).
[15] قوله: ((الَّتي نهى الله تعالى عن مقاربة الصَّلاة فيها)) ليس في (م).
[16] زاد في (م): ((قد)).
[17] في (ص) تحتمل: ((همته)).
[18] في (م): ((اليسير)).
[19] قوله: ((وحده)) ليس في (م).
[20] قوله: ((على)) ليس في المطبوع و(م) و(ص).
[21] في (ص): ((قاعدًا)).
[22] في (م): ((لم)). قوله: ((لا)) غير واضح في (ص).
[23] زاد في (م): ((أحمد)).
[24] في (م): ((فلم)). في (ص): ((فإنه لم)).
[25] قوله: ((أحد من)) ليس في (م).
[26] في (ص): ((أربع)).
[27] في (م): ((نومه)).
[28] في (م): ((الشَّافعي وأبو حنيفة)).
[29] زاد في (م) و(ص): ((في)).
[30] قوله: ((إن شاء الله)) ليس في (م).
[31] قوله: ((عليه)) ليس في (م).
[32] زاد في (م): ((إن شاء الله)).
[33] قوله: ((عبد الواحد)) ليس في (م).
[34] في (م) والمطبوع و(ص): ((معفو)).
[35] في (م): ((ذهب)).
[36] في (م): ((العلماء)).