شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب من الكبائر أن لا يستتر من بوله

          ░55▒ بَابُ: مِنَ الكَبَائِرِ أَنْ لا يَسْتَتِرَ مِنْ بَوْلِهِ.
          فيهِ: ابنُ عَبَّاسٍ: (مَرَّ النَّبيُّ صلعم بِحَائِطٍ مِنْ حِيْطَانِ المَدِينَةِ، أَوْ مَكَّةَ(1) فَسَمِعَ صَوْتَ إِنْسَانَيْنِ يُعَذَّبَانِ في قُبُورِهِمَا، فَقَالَ النَّبيُّ صلعم(2): يُعَذَّبَانِ(3)، وَمَا يُعَذَّبَانِ في كَبِيْرٍ. ثمَّ قَالَ: بَلَى، كَانَ أَحَدُهُمَا لا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ، وَكَانَ الآخَرُ يَمْشِي بِالنَّمِيْمَةِ) الحديث. [خ¦216]
          قال المُهَلَّبُ: قوله: (وَمَا يُعَذَّبَانِ في كَبِيْرٍ)، يعني عندكم، وهو كبيرٌ عند الله ╡ يدلُّ على ذلك قوله ◙: (بَلَى) أي بلى إنَّه لكبيرٌ عند الله تعالى وهو(4) كقوله ◙: ((إنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمَ بالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ ╡ ما يَظُنُّ أَنَّها تَبْلُغُ حَيْثُ بَلَغَتْ(5)، يُكْتَبُ(6) لَهُ بِهَا سَخَطُهُ إِلَى يَوْم ِيَلْقَاهُ)).
          ومصداق هذا المعنى في كتاب الله ╡(7): {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيْمٌ}[النُّور:15]. واختلفَ أهلُ التَّأويلِ في الكبائرِ التي تُغْفَرُ الصَّغَائرُ باجتنابِها، فقالَ بعضُهم: الكبائرُ(8) سبعٌ، وقال آخرون(9): هي تِسْعٌ، وقال آخرون: كلُّ ما نهى الله عنه فهو كبيرٌ(10)، وقيل: كلٌّ ما عُصِيَ الله به(11) فهو كبيرٌ(12). هذا قول الأشعريَّة، ويحتمل أن يحتَجُّوا بهذا الحديث؛ لأنَّ ترك التَّحرُّز مِن البول لم يتقدَّم فيه وعيدٌ من الله ╡ ولا مِن رسوله ◙، حتَّى أخبر عنه صلعم أنَّه كبيرٌ وأنَّ صاحبه يعذَّب عليه، فكذلك يجوز أنْ يكون كثيرٌ مِن الذُّنُوب كبائرٌ وإن لم يتقدَّم عليها وعيدٌ. وخالفهم الفقهاء وأهل تأويل القرآن(13) في ذلك، وفرَّقوا بين الكبائر والصَّغائر. وقد تقصَّيت مذاهب العلماء فيه، وما نزع به كلُّ فريقٍ في كتاب الأدب فهو أولى به. وفي حديث ابن عبَّاسٍ: أنَّ عذابَ القبرِ حقٌّ، يجب الإيمان به والتَّسليم له، وهو مذهب أهل السُّنَّة، وسيأتي في كتاب الجنائز شيءٌ من معنى هذا الحديث إن شاء الله ╡(14) [خ¦1361]. ورُوِيَ(15) هذا عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ وعُبَيْدِ بنِ عُمَيْرٍ(16) وعَطَاءٍ، واحتَجُّوا بآثارٍ عن النَّبيِّ صلعم في ذلك، فقال بعضهم: الكبائر تِسْعٌ، رُوِيَ هذا عن عبدِ اللهِ بن عُمَرَ. وقال آخرون: كلُّ ذنبٍ ختمه الله بنارٍ أو لعنةٍ أو غضبٍ أو عذابٍ فهو كبيرٌ. رُوِيَ هذا عن ابنِ عبَّاسٍ، ورُوِيَ عنه: كلُّ ما نهى الله عنه فهو كبيرٌ، قال: ومنها النَّظرة، وقال مرَّةً: كلُّ شيءٍ عُصِيَ الله به فهو كبيرٌ، وقال طَاوُسٌ: قيل لابن عبَّاسٍ: الكبائر سَبْعٌ؟ قال: هي إلى السَّبعين أقرب، وقال سَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ: قال رَجُلٌ لابن عبَّاسٍ: الكبائر سَبْعٌ؟ قال: هي إلى سبعمائةٍ أقرب منها إلى سَبْعٍ، غير أنَّه لا كبيرة مع استغفارٍ، / ولا صغيرة مع إصرارٍ. وذهب أهل التَّأويل إلى أنَّ الصَّغائر تُغْفَرُ باجتنابِ الكبائر، وخالفهم في ذلك الأشعريَّة، وسيأتي بيان قولهم(17) وما نزع به(18) كلُّ فريقٍ منهم(19) في كتاب الأدب إن شاء الله ╡. إلَّا أنَّ قوله: (يُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ في كَبِيْرٍ) حجَّةٌ لقول ابن عبَّاسٍ(20) أنَّ ما عُصِيَ الله به فهو كبيرٌ؛ لأنَّ ترك التَّحرُّز مِن البول لم يتقدَّم فيه وعيدٌ من الله ╡ ولا مِن رسوله ◙ حتَّى أخبر صلعم أنَّه كبيرٌ، وأنَّ صاحبه يُعذَّب عليه، فكذلك يجوز أن يكون كثيرٌ(21) مِن الذُّنُوب كبائرَ وإنْ لم يتقدَّم عليها وعيدٌ، وقال(22) أبو بَكْرٍ الصِّدِّيق: إنَّ الله يغفر الكبير فلا تيأسوا، ويُعذِّب على الصَّغير فلا تغترُّوا.(23) وفي حديث ابن عبَّاسٍ: أنَّ عذابَ القبرِ حقٌّ، يجب الإيمان به والتَّسليم له، وهو مذهب أهل السُّنَّة، وسيأتي في كتاب الجنائز شيء مِن معنى هذا الحديث(24) إنْ شاء الله ╡ [خ¦1361].


[1] قوله: ((من حيطان المدينة أو مكَّة)) ليس في (م).
[2] في (ص): ((فقال ◙)).
[3] في (م): ((في قبورهما ثمَّ قال: يعذَّبان)).
[4] في (م): ((وهذا)).
[5] في (م): ((تبلغ ما بلغت))، وفي المطبوع و(ص): ((تبلغ حيث ما بلغت)).
[6] في (م): ((يكتب الله)).
[7] زاد في (م): ((في قوله تعالى)).
[8] في (م): ((هي)).
[9] في (م): ((بعضهم)).
[10] في (م): ((كبيرة)).
[11] في (م): ((فيه)).
[12] زاد في (م): ((به)).
[13] في (م): ((وأهل التَّأويل)).
[14] قوله ((وفي حديث ابن عبَّاسٍ: أنَّ عذابَ القبرِ حقٌّ، يجب الإيمان به والتَّسليم له، وهو مذهب أهل السُنَّة، وسيأتي في كتاب الجنائز شيءٌ من معنى هذا الحديث إن شاء الله ╡)) زيادة من (ز)، وليست في المطبوع ولا في (م)، وهي مكررة في آخر الباب في (ز) والمطبوع و(م).
[15] العبارة في (ص): ((في كتاب الأدب فهو أولى به وفي حديث ابن عباس روي)).
[16] زاد في (ص): ((وعبيدة)).
[17] في (ص): ((نقلهم)).
[18] في المطبوع و(ص): ((إليه)).
[19] قوله: ((منهم)) ليس في (ص).
[20] في (ص): ((لقول الله)).
[21] في (ص): ((كثيرًا)).
[22] في (ص): ((قال)).
[23] قوله ((ورُوِيَ هذا عن عليِّ بن أبي طالب وعُبَيْدِ بن عُمَيْرٍ وعَطَاءٍ، واحتَجُّوا بآثار عن النَّبيِّ صلعم في ذلك. فقال بعضهم:... إلى قوله... إنَّ الله يغفر الكبير فلا تيأسوا، ويعذَّب على الصَّغير فلا تغترُّوا)) ليس في (م).
[24] في (ص): ((الباب)).