شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الغسل والوضوء في المخضب والقدح والخشب والحجارة

          ░45▒ باب الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ في الْمِخْضَبِ وَالْقَدَحِ الْخَشَبِ(1) وَالْحِجَارَةِ.
          فيه: أَنَس: (أُتِيَ رَسُولُ اللهِ صلعم(2) بِمِخْضَبٍ مِنْ حِجَارَةٍ فِيهِ مَاءٌ، فَصَغُرَ الْمِخْضَبُ أَنْ يَبْسُطَ فِيهِ(3) كَفَّهُ، فَتَوَضَّأَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ، قُلْنَا: كَمْ كُنْتُمْ؟ قَالَ: ثمانون(4) وَزِيَادَةٌ). [خ¦195]
          وفيه: أَبُو مُوسَى: (أَنَّ النبي صلعم دَعَا بِقَدَحٍ فِيهِ مَاءٌ، فَغَسَلَ يَدَيْهِ وَوَجْهَهُ، وَمَجَّ فيه). [خ¦196]
          وفيه: عَبْد اللهِ بْن زَيْدٍ: (أَتَانا النبي صلعم فَأَخْرَجْنَا لَهُ مَاءً في تَوْرٍ مِنْ صُفْرٍ، فَتَوَضَّأَ).
          وفيه: عَائِشَة: (لَمَّا ثَقُلَ النبي صلعم اسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ أَنْ يُمَرَّضَ في بَيْتِي، فَأَذِنَّ لَهُ، فَقَالَ: أهَرِيقُوا عَلَيَّ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ لَمْ تُحْلَلْ أَوْكِيَتُهُنَّ لَعَلِّي /
          َأعْهَدُ إلى النَّاسِ، وَأُجْلِسَ في مِخْضَبٍ لِحَفْصَةَ) الحديث. [خ¦198]
          قال المؤلف: فائدة هذا الباب أن الأواني كلها من جواهر الأرض ونباتها طاهرة إذا لم يكن فيها نجاسة، والمخضب يكون من حجارة ومن صُفْر، والذي(5) في حديث أنس كان من حجارة، وأما الذي في حديث عائشة:(6) كان من صفر، روى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة أو غيره عن عائشة قالت: قال رسول الله صلعم في مرضه الذي مات فيه: ((صبُّوا عليَّ من سبع قِرَب لم تحلل أوكيتهن، لعلِّي أستريح فأعهد(7) إلى الناس)) قالت عائشة: فأجلسناه في مخضب لحفصة من نحاس، وذكر الحديث. قال(8) ابن المنذر: روي عن علي بن أبي طالب أنه توضأ في طست، وعن أنس مثله، وقال الحسن البصري: رأيت عثمان يُصبُّ عليه من إبريق وهو يتوضأ، قال: وما علمت أحدًا كره النحاس والرصاص وشبهه إلا ابن عمر فإنه كره الوضوء في الصفر، وكان يتوضأ(9) في حجر أو في خشب أو أدم، وروي عن معاوية أنه قال(10): نهيت أن أتوضأ في النحاس، وفي رسول الله صلعم(11) الأسوة الحسنة والحجة البالغة(12)، وقال ابن جُريج: ذكرت لعطاء كراهية ابن عمر للصفر، فقال: أنا أتوضأ في النحاس(13)، وما يكره منه شيء إلا رائحته(14) فقط. قال المؤلف: وقد وجدت عن ابن عمر أنه توضأ فيه(15)، [روى أحمد بن خالد عن محمد بن وضاح عن موسى _يعني ابن معاوية_ عن وكيع عن سفيان عن عبد الله بن زيد أنه قال: كان ابن عمر يكره الصفر ويتوضأ فيه](16)، فهذه الرواية عنه أشبه بالصواب وما عليه الناس، وقال(17) بعض الناس: يحتمل أن تكون كراهية ابن عمر للنحاس والله أعلم لما كان جوهرًا مستخرجًا من معادن(18) الأرض شبَّهه بالذهب والفضة، فكرهه لنهيه(19) صلعم عن الشرب في آنية الفضة، وقد روي عن جماعة من العلماء أنهم أجازوا الوضوء في آنية الفضة وهم يكرهون الأكل والشرب فيها.
          وفي وضوء الثمانين رجلًا من مخضب صفُرٍ(20) أن(21) يبسط(22) النبي صلعم كفه فيه علَمٌ كبير من أعلام النبوة(23)، وقال المُهَلَّب: إنما أمر والله أعلم أن يهراق عليه من سبع قرب على وجه التداوي كما صب ◙ وضوءه على المغمى عليه وكما أمر الْمَعِين أن يغتسل به(24)، وليس كما ظن من غلط وزعم أن النبي ◙ اغتسل من إغمائه، وذكر عبد الوهاب بن نصر عن الحسن البصري أنه قال: على المغمى عليه الغسل، وقال ابن حبيب: عليه الغسل إذا طال ذلك به، والعلماء متفقون غير هؤلاء(25) أن من أغمي عليه فلا غسل عليه إلا أن يجنب، وقصده إلى سبع قرب تبركًا بهذا العدد لأن الله تعالى خلق كثيرًا من مخلوقاته سبعًا سبعًا.
          وترجم لحديث عبد الله بن زيد: باب الْوُضُوءِ مِنَ التَّوْرِ، وفيه: ((فَمَسَحَ(26) رَأْسَهُ، فَأَدْبَرَ بِيَدَيْهِ وَأَقْبَلَ(27))) وذكر الحديث.
          وفيه: أَنَس(28): (أَنَّ النبي صلعم دَعَا بِإِنَاءٍ مِنْ مَاءٍ، فَأُتِيَ بِقَدَحٍ رَحْرَاحٍ فِيهِ شيء مِنْ مَاءٍ، فَوَضَعَ أَصَابِعَهُ فِيهِ، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إلى الْمَاءِ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ صلعم). [خ¦200]
          قال المؤلف: بهذا الحديث احتج الحسن بن حيٍّ ومن أجاز أن يبدأ المتوضئ بمسح الرأس من مؤخره، وليس كما ظن لأن الواو لا توجب رتبة لأن قوله(29): (فأدبر بيديه وأقبل) يحتمل التقديم والتأخير، ولو بدأ ◙ في مسح رأسه بمؤخره _على ما جاء في هذا الحديث_ لم يدل ذلك على أن سنةَ(30) مسح الرأس أن يبدأ بمؤخره؛ لأن هذه الفعلة إنما كانت نادرة(31) منه صلعم وفعلها(32) ليري أمته السعة في ذلك، وقد كان يفعل طول دهره ما روى مالك في حديث عبد الله بن زيد: ((أن رسول الله صلعم مسح رأسه فبدأ بمقدمه، ثم ذهب بهما(33) إلى قفاه)) وهذا يرفع الإشكال في ذلك(34) على ما بيناه.
          وقوله: (قَدَحٍ رَحْرَاحٍ) هو(35) القصيرُ الجدارِ القريبُ القعرِ، وقال ابن قتيبة: يقال إناء رحراح ورحرح إذا كان واسعًا، قال الحربي: ومنه الرحرح(36) في حافر الفرس، وهو أن يتسع حافره ويقل عمقه، قال الأصمعي: ويكره(37) في الخيل، وقال أبو عبيد: الْمِخْضَب مثل الإِجانة التي تغسل فيها الثياب، وقد يقال لها: الْمِركن أيضًا.


[1] في (م) و (ص): ((والخشب)).
[2] قوله: ((صلعم)) ليس في (ص).
[3] في (م): ((فصغر أن يمشط فيه)).
[4] في (م): ((ثمانين)).
[5] في (م): ((ومن صفر، والمخضب الذي)).
[6] زاد في (م): ((فإنه)).
[7] في (م): ((وأعهد)).
[8] في (م): ((وقال)).
[9] قوله ((قال: وما علمت أحدًًا... وكان يتوضأ)) ليس في (م).
[10] في (ص): ((أنه كان يصلي بهم وقال)).
[11] في (ص): ((بالنحاس ورسول الله)).
[12] في (م): ((الحجة البالغة والأسوة الحسنة)).
[13] في (ص): ((بالنحاس))، وفي (م): ((إنا نتوضأ بالنحاس)).
[14] في (م): ((ريحه)).
[15] في (م): ((أنه كان يتوضأ فيه)).
[16] قوله: ((روى أحمد بن خالد...الصفر ويتوضأ فيه)) زيادة من (م).
[17] زاد في (م): ((لي)).
[18] في (م): ((جواهر)) ونبه إلى المثبت في نسخة.
[19] في (ص): ((لنهي الرسول)).
[20] في (م): ((صغير)).
[21] في (ص) والمطبوع: ((لم)).
[22] زاد في (م): ((فيه)).
[23] في (م): ((كفه علَم عظيم من أعلام نبوته)).
[24] في (م): ((أن يغسل له)).
[25] زاد في (م): ((على)).
[26] في (م): ((مسح)).
[27] في (ص): ((فأقبل بيديه وأدبر)).
[28] قوله ((أنس)) ليس في (م).
[29] في (م): ((قال المؤلف: قد ذكرنا في باب مسح الرأس كله أن الحسن بن حي استدل بهذا الحديث في أن يبدأ بمسح الرأس من مؤخره، وذكرنا الرد لقوله بأن الواو لا توجب رتبة وأن قوله)).
[30] في (م): ((سنته)).
[31] في (م): ((لأن هذه الفعلة كانت مرة نادرة)).
[32] في (م): ((فعلها)).
[33] قوله: ((بهما)) ليس في (ص).
[34] في (م): ((حمله)).
[35] زاد في (م): ((القدح)).
[36] في (م): ((الرَّحَح)).
[37] زاد في (م): ((ذلك)).