شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب ما يقع من النجاسات في السمن والماء

          ░67▒ بَابُ: مَا يَقَعُ مِنَ النَّجَاسَاتِ في السَّمْنِ وَالمَاءِ.
          وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لا بَأْسَ بِالمَاءِ مَا لَمْ يُغَيِّرْهُ طَعْمٌ، أَوْ رِيحٌ، أَوْ لَوْنٌ(1).
          وَقَالَ حَمَّادٌ: لا بَأْسَ بِرِيشِ المَيْتَةِ.
          وَقَالَ الزُّهْرِيُّ في عِظَامِ المَوْتَى نَحْوَ الفِيلِ وَغَيْرِهِ: أَدْرَكْتُ نَاسًا مِنْ سَلَفِ العُلَمَاءِ يَمْتَشِطُونَ(2) بِهَا، وَيَدَّهِنُونَ فِيهَا، لَا(3) يَرَوْنَ فيها بَأْسًا.
          وَقَالَ ابنُ سِيرِينَ وَإِبْرَاهِيمُ: لا بَأْسَ بِتِجَارَةِ العَاجِ.
          فيهِ: مَيْمُونَةُ: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ سَقَطَتْ في سَمْنٍ، فَقَالَ: أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَكُلُوا سَمْنَكُمْ). [خ¦235]
          وفيهِ: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم(4): (كُلُّ كَلْمٍ يُكْلَمُهُ المُسْلِمُ في سَبِيْلِ اللهِ يَكُونُ يَوْمَ القِيَامَةِ كَهَيْئَتِهَا إِذْ طُعِنَتْ، تَفَجَّرُ دَمًا، اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّم، وَالعَرْفُ عَرْفُ المِسْك(5)). [خ¦237]
          قال المُؤَلِّفُ: قول(6) الزُّهْرِيِّ: لا بأس بالماء ما لم يُغَيِّرْهُ لونٌ أو طعمٌ أو ريحٌ. هو(7) قول الحَسَنِ والنَّخَعِيِّ والأوزاعيِّ ومذهب أهل المدينة، وهي روايةُ أبي مُصْعَبٍ عن مالكٍ.
          وقد روى عنه ابنُ القَاسِمِ: أنَّ قليل الماء ينجس بقليل النَّجاسة وإن لم تطهر فيه، وهو قول الشَّافعيِّ. قال المُهَلَّبُ: وهذا عند أصحاب مالكٍ على سبيل الاستحسان والكراهية لعين النَّجاسة وإن قلَّت، وهذا القول مستنبطٌ(8) مِن حديث الفأرة / تموت في السَّمن؛ لأنَّه صلعم منع مِن أكل السَّمن لما خشي أن يكون سرى فيه(9) من الميتة المُحَرَّمَةِ وإن لم يتغيَّر لون السَّمن أو ريحه أو طعمه بموت الفأر(10) فيه.
          قال المُؤَلِّفُ(11): وأمَّا رواية(12) أبي مُصْعَبٍ عن مالكٍ الَّذي هو مذهب أهل المدينة، فإنَّه يستنبط من حديث الدَّم، ووجه الدِّلالة منه أنَّه لما انتقل حكم الدَّم بطيب الرَّائحة مِن النَّجاسة إلى الطَّهارة حين حكم له في الآخرة بحكم المِسك الطِّاهر، وجب أن ينتقل الماء الطَّاهر بخبيث(13) الرَّائحة إذا حلَّت فيه نجاسةٌ من حكم الطَّهارة(14) إلى النَّجاسة.
          وإنَّما ذكر البخاريُّ حديث الدَّم في بابِ نجاسةِ الماءِ؛ لأنَّه لم يجد حديثًا صحيح السَّند في الماء، فاستدلَّ على حكم الماء المائع بحكم الدَّم المائع؛ وذلك(15) المعنى الجامع بينهما.
          فإن قال قائلٌ: لمَّا حكم للدَّم مِن النَّجاسة إلى حكم الطَّهارة بطيب رائحته، وحكم له في الآخرة بحكم المسك الطَّاهر، إذ لا يوصف فيها بطيب الرَّائحة شيءٌ نجسٌ، وجب أن يحكم للماء إذا تغيَّر ريحه أو لونه وطعمه(16) بنجسٍ حلَّ فيه بحكم النَّجاسة لانتقاله مِن الطَّهارة إلى النَّجاسة، وخُرُوجه عن حكم الماء الَّذي أباح الله تعالى به الطَّهارة، وهو الماء الَّذي لا يُخالطه شيءٌ يُغَيِّرُهُ عن صفته(17). فإن قال قائلٌ: إنَّه لما حكم للدَّم بالطَّهارة بتغيُّر ريحه إلى الطَّيب وبقي فيه اللَّون والطَّعم ولم يذكر تغيُّرهما إلى الطِّيب(18)، وجب أن يكون الماء إذا تغيَّر منه وصفان بالنَّجاسة وبقي وصفٌ واحدٌ طاهرٌ(19) أن يكون طاهرًا يجوز الوضوء به(20)، قيل: ليس كما توهَّمت؛ لأنَّ ريح المسك حكمٌ للدم بالطَّهارة، فكان اللَّون والطَّعم تَبَعًا للطَّاهر وهو الرَّيح الَّذي انقلب ريح مسكٍ(21)، فكذلك الماء إذا تغيَّر منه وصفٌ واحدٌ بنجاسةٍ حلَّت فيه، كان الوصفان الباقيان تَبَعًا للنَّجاسة، وكان الماء بذلك خارجًا عن حدِّ الطَّهارة لخُرُوجه عن صفة الماء الَّذي جعله الله(22) طهورًا، وهو الماء(23) الَّذي لا يُخالطه شيءٌ. وأمَّا ريش الميِّتة وعظام الفيل ونحوه فهو طاهرٌ(24) عند أبي حنيفةَ، نجسٌ عند مالكٍ والشَّافعيِّ(25)، لا يدَّهن فيها(26) ولا يمتشط، إلَّا أنَّ مالكًا قال: إذا ذُكِّي الفيل فعظمُه طاهرٌ، والشَّافعيُّ يقول: إنَّ الذَّكاة لا تعمل في السِّباع. وقال اللَّيثُ وابنُ وَهْبٍ: إن غُلي العظم في ماءٍ سُخِّنَ فطُبخ جاز الادِّهان به والامتشاط. ورخَّص عُرْوَة في بيع العاج(27). قال(28) ابن المَوَّاز: ونهى مالكٌ عن الانتفاع بعظم الميِّتة والفيل والادِّهان فيه، ولم يطلق تحريمها؛ لأنَّ عُرْوَةَ وابنَ شِهَابٍ ورَبِيْعَةَ أجازوا الامتشاط فيها. قال ابنُ حَبِيْبٍ: وأجاز اللَّيثُ وابنُ المَاجِشُونِ ومُطَرِّفٌ وابنُ وَهْبٍ وأَصْبَغُ الامتشاط بها(29) والادِّهان فيها(30)، فأمَّا بيعها فلم يُرَخِّصْ فيه إلَّا ابنُ وَهْبٍ، قال: إذا غُليت جاز بيعها، وجُعلت كالدِّباغ لجلد الميَّتة يُدبغ أنَّه يُباع. وقال مالكٌ وأبو حنيفةَ: إن ذُكِّيَ الفيل فعظمُه(31) طاهرٌ. والشَّافعيُّ يقول: إنَّ الذَّكاة لا تعمل في السِّباع، ومن أجاز تجارة العاج فهو عنده طاهرٌ. وأمَّا ريش الميَّتة فطاهرٌ عند أبي حنيفةَ كقوله في عظام الفيل، بناءً على أصله أن(32) لا روح فيها، وعند مالكٍ والشَّافعيِّ نجسةٌ، وقال ابن حَبِيْبٍ: لا خيرَ في ريش الميَّتة؛ لأنَّه له سَنَخٌ إلَّا ما لا سَنَخَ له مثل الزَّغَبِ وشبهه، فلا بأس به إذا غُسِلَ.


[1] في (م): ((لون أو طعم أو ريح)).
[2] في (م): ((يتمشطون)).
[3] في (م): ((ولا)).
[4] في (م): ((أبو هريرة قال النَّبيُّ صلعم)).
[5] في (ص): ((مسك)).
[6] في (م): ((قال)).
[7] في (م): ((هذا)).
[8] في (م) والمطبوع: ((يستنبط))
[9] في (م) و(ص): ((يسري شيء))
[10] في (م) والمطبوع و(ص): ((الفأرة))
[11] في (م): ((غيره))
[12] في (م): ((رواة))
[13] في (م) و تحتمل في(ص): ((بخبث)) وكتب في حاشية (ص): ((بحكم)).
[14] في (ص): ((الطاهر)).
[15] في (ص) و(م) والمطبوع: ((إذ ذلك)).
[16] في (ص) والمطبوع: ((أو طعمه)).
[17] قوله: ((فإن قال قائلٌ: لما حكم للدَّم من النَّجاسة إلى حكم الطَّهارة... إلى قوله... به الطَّهارة، وهو الماء الَّذي لا يخالطه شيءٌ يُغيِّره عن صفته.)) ليس في (م).
[18] قوله: ((إلى الطَّيب)) ليس في (م).
[19] زاد في المطبوع و(ص): ((وجب)).
[20] في (م): ((وصفٌ واحدٌ لم يتغيَّر أن يكون طاهرًا يجوز الوضوء به)).
[21] في (ص): ((المسك)).
[22] زاد في (ص): ((الماء)).
[23] قوله: ((الماء)) ليس في (م).
[24] في (م): ((وأمَّا عظام الفيل والميِّتة فهي طاهرةٌ)).
[25] في (م): ((مكروهةٌ عند مالكٍ نجسةٌ عند الشَّافعيِّ)).
[26] في (م): ((لا يدهن بهما غيرهما)).
[27] قوله: ((إلَّا أنَّ مالكًا قال: إذا ذُكَّيَ الفيل فعظمه طاهرٌ، والشَّافعيُّ... إلى قوله... والامتشاط. ورخَّص عُرْوَة في بيع العاج.)) ليس في (م).
[28] في المطبوع و(ص): ((وقال)).
[29] في (م): ((فيها)).
[30] قوله: ((فيها)) ليس في المطبوع و(م).
[31] في (م): ((بطعنة)).
[32] في (م): ((أنَّه)).