شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين

          ░34▒ بَاب مَنْ لَمْ يَرَ الْوُضُوءَ إِلا مِنَ الْمَخْرَجَيْنِ الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ لقَوْلِهِ تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ}[المائدة:6]وَقَالَ عَطَاءٌ فِيمَنْ يَخْرُجُ مِنْ دُبُرِهِ الدُّودُ أَوْ مِنْ ذَكَرِهِ نَحْوُ الْقَمْلَةِ: يُعِيدُ الْوُضُوءَ، وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ(1): إِذَا ضَحِكَ في الصَّلاةِ أَعَادَ الصَّلاةَ وَلَمْ يُعِدِ الْوُضُوءَ، وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنْ أَخَذَ مِنْ شَعرِهِ أَوْ مِنْ أَظْفَارِهِ أَوْ خَلَعَ خُفَّيْهِ فَلا وُضُوءَ عَلَيْهِ، وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لا وُضُوءَ إِلا مِنْ حَدَثٍ، وَيُذْكَرُ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النبي صلعم كَانَ في غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ، فَرُمِيَ رَجُلٌ بِسَهْمٍ، فَنَزَفَهُ الدَّمُ، فَرَكَعَ وَسَجَدَ وَمَضَى في صَلاتِهِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: مَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ يُصَلُّونَ في جِرَاحَاتِهِمْ، وَقَالَ طَاوُسٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ وَعَطَاءٌ(2) وَأَهْلُ الْحِجَازِ: لَيْسَ في الدَّمِ وُضُوءٌ، وَعَصَرَ ابْنُ عُمَرَ بَثْرَةً فَخَرَجَ مِنْهَا دَمٌ، فلَمْ يَتَوَضَّأْ، وَبَزَقَ ابْنُ أبي أَوفى دَمًا، فَمَضَى في صَلاتِهِ، قَالَ(3) ابْنُ عُمَرَ وَالْحَسَنُ فِيمَنِ احْتَجم: لَيْسَ عَلَيْهِ إِلا غَسْلُ مَحَاجِمِهِ.
          هكذا رواه المستملي وحده بإثبات إلا، ورواه الكُشْمِيْهَنِي وأكثر الرواة بغير إلا، فالمعروف عن ابن عمر والحسن أن عليًّا غسل محاجمه، ذكره ابن المنذر، فرواية المستملي هي الصواب(4).
          فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ رسول الله صلعم: (لا يَزَالُ الْعَبْدُ في صَلاةٍ(5) مَا كان في الْمَسْجِدِ(6) يَنْتَظِرُ الصَّلاةَ مَا لَمْ يُحْدِثْ) فَقَالَ رَجُلٌ أَعْجَمِيٌّ(7): مَا الْحَدَثُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: الصَّوْتُ، يعني الضراط(8). [خ¦176]
          وفيه: عبد الله بن زيد، قَالَ النبي صلعم(9): (لا تَنْصَرِفْ حَتَّى تَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ تَجِدَ رِيحًا). [خ¦177]
          وفيه: الْمِقْدَاد: (أنه سأل النبي صلعم عن المذي، قَالَ(10): فِيهِ الْوُضُوءُ). [خ¦178]
          وفيه: عُثْمَان عن النبي صلعم: (إِذَا جَامَعَ وَلَمْ يُمْنِ يَتَوَضَّأُ كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلاةِ، وَيَغْسِلُ ذَكَرَهُ) وقال ذلك: عَلِيٌّ وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر(11) وَأُبَيُّ بن كَعْبٍ. [خ¦179]
          وفيه: أَبُو سَعِيدٍ الخدري(12) أَنَّ رَسُولَ اللهِ(13) صلعم(14) أَرْسَلَ إلى(15) رَجُلٍ مِنَ الأنْصَارِ، فَجَاءَ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ، فَقَالَ(16) النبي صلعم(17): (لَعَلَّنَا أَعْجَلْنَاكَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ رسول الله صلعم(18): إِذَا أُعْجِلْتَ أَوْ قُحِطْتَ فَعَلَيْكَ الْوُضُوءُ). [خ¦180]
          قال المؤلف: أما المخرجان فعند أبي حنيفة والشافعي أن كل ما يخرج منهما حدث ينقض الوضوء نادرًا أو معتادًا، وعند مالك أن ما يخرج من المخرجين معتادًا أنه ينقض الوضوء، وما خرج نادرًا على وجه المرض لا ينقض الوضوء كالاستحاضة وسلس البول والمذي والحجَر والدود والدم، وأما ما خرج من بدن الإنسان من الأنجاس من غير المخرجين كالقيء والرعاف أو دم فصاد أو دمل فلا وضوء عليه(19) فيه عند جماعة من العلماء، كما لا وضوء في الجشاء المتغير، هذا(20) مذهب جماعة من الصحابة، وهو قول الحسن وربيعة ومكحول ومالك والشافعي وأبي ثور، وذهب أبو حنيفة(21) إلى أن(22) الوضوء فيما(23) سال من ذلك وكثر، فإن لم يسل فلا وضوء عليه(24) فيه، وكذلك القيء إن ملأ الفم ففيه الوضوء عنده، وإن كان دون ذلك فلا وضوء فيه، وممن كان يوجب في الدم الوضوء قال مجاهد في الخدش يخرج منه الدم: يتوضأ وإن لم يسِل(25)، وقال سعيد بن جبير: لا يتوضأ حتى يسيل، وممن أوجب الوضوء في الرعاف(26) سعيد بن المسيب وعطاء والثوري وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل، وذكر ابن المنذر عن ابن عمر والحسن وعطاء أنهم كانوا يرون من الحجامة الوضوء وغسل أثر المحاجم، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه وأحمد، قال ابن المنذر: وقد روينا عن غير واحد أنهم كانوا يغتسلون من الحجامة، روي ذلك عن علي وابن عباس ومجاهد وابن سيرين، وذكر عن ابن عمر والحسن البصري رواية أخرى أنه لا وضوء في الحجامة وإنما عليه غسل مواضعها فقط، وهو قول مالك وأهل المدينة والليث والشافعي / وأبي ثور، وقال الليث: يجزئه أن يمسحه ويصلي ولا يغسله، وعلى هذا الفصل(27) بوَّب البخاري هذا الباب رادًّا عليه أن لا وضوء إلا من المخرجين، وذكر أقوال(28) الصحابة والتابعين أنه لا وضوء من الدم ولا من الحجامة، واحتج بقوله تعالى: {أَو جَاءَ أَحَد مِنْكُم منَ الغَائِط}[النساء:43]وحديث الذي رمي بسهم فنزفه الدم ومضى في صلاته حجة في أن الدم لا ينقض الوضوء، وسائر أحاديث الباب(29) حجة في أن لا وضوء من غير(30) المخرجين.
          وقول عطاء فيمن خرج من دبره الدود ومن ذكره نحو القملة يعيد الوضوء فهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، فأما(31) مالك فلا يوجب في شيء من ذلك وضوءًا إلا أن يخرج معهما شيء من حدث، وقول جابر: (إِذَا ضَحِكَ في الصَّلاةِ أَعَادَ الصَّلاةَ) فهو إجماع من العلماء، وإنما الخلاف هل ينقض(32) وضوءه أم لا؟ فذهب مالك والليث والشافعي إلى أنه لا ينتقض(33) وضوؤه، وذهب الحسن والنخعي إلى أن الضحك في الصلاة ينقض الوضوء، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والثوري(34) والأوزاعي، وحجة من لم ير الوضوء من الضحك(35): أنه لما لم يكن حدثًا في غير الصلاة لم يكن حدثًا في الصلاة، وقول الحسن: من أخذ من شعره أو أظفاره فلا وضوء عليه هو(36) قول أهل الحجاز والعراق، وروي عن أبي العالية والحكم ومجاهد وحماد إيجاب الوضوء في ذلك، وقال عطاء والشافعي(37) والنخعي(38): يمسه بالماء.
          وأما من خلع خفيه بعد المسح عليهما ففيها أربعة أقوال: قال مكحول والنخعي والزهري وابن أبي ليلى والأوزاعي وأحمد وإسحاق: يستأنف الوضوء من أوله، وهو قول الشافعي القديم، وقال مالك والليث: يغسل رجليه مكانه، فإن لم يغسل استأنف الوضوء، وقال الثوري وأبو حنيفة والشافعي في الجديد والمزني وأبو ثور: يغسل رجليه إذا أراد الصلاة، ومن جعل الرتبة مستحبة في الوضوء من أصحاب مالك يقول مثل هذا، وقال الحسن البصري: لا شيء عليه ويصلي كما هو، وهو قول قتادة(39) وروي مثله عن النَّخَعِي(40)، وحديث الذي نزفه الدم(41) ومضى في صلاته يدل أن الرعاف والدم لا ينقضان الوضوء، وهو قول أهل الحجاز، وهو رد على أبي حنيفة، وفي الحجامة عند أبي حنيفة وأصحابه: الوضوء، وهو قول أحمد بن حنبل، وعند ربيعة ومالك والليث وأهل المدينة: لا وضوء في الحجامة، وهو قول الشافعي وأبي ثور وقالوا: ليس في الحجامة إلا غسل مواضعها فقط، وقال الليث: يجزئ أن يمسحه ويصلي ولا يغسله، وسائر ما ذكره البخاري في الباب من أقوال الصحابة والتابعين أنه لا وضوء من الدم والحجامة مطابق للترجمة أنه لا وضوء في غير المخرجين، وكذلك أحاديث الباب حجة في ذلك أيضًا(42).
          وقوله: (الحَدَثُ الضَّرطَة) و(لا ينْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا) هو إجماع من العلماء، وحديث المقداد في المذي مجمع عليه أن فيه الوضوء أظنه إلا أن يَسْلَسَ منه عند مالك فهو مرض ولا(43) يكون فيه الوضوء(44)، وحجته في مراعاة المعتاد من المخرجين قوله صلعم في دم الاستحاضة: ((إنما ذلك عرق وليس بحيض)) فعلل ◙ دم الاستحاضة بأنه عرق، ودم العرق لا يوجب وضوءًا، وسيأتي هذا المعنى مبينًا في مواضعه(45) إن شاء الله تعالى، وأما حديث عثمان و(46) سعيد(47) فأقل أحوالهما حصول المذي لمن جامع ولم يمن، فهما في معنى حديث المقداد من وجه إلا أن جماعة العلماء وأئمة الفتوى مجمعون على الغسل من مجاوزة الختان(48) لأمر رسول الله صلعم بذلك، وهو زيادة بيان على حديث عثمان وأبي سعيد يجب الأخذ بها؛ إذ الأغلب(49) في ذلك سبق الماء للمولج وهو لا يشعر به لمغيب العضو إذ ذلك بدء اللذة وأول العسيلة، فالتزم(50) المسلمون الغسل من مَغيِب الحشفة بالسنة الثابتة في ذلك، وشذَّ عن جماعتهم جاهل خرق الإجماع وخالف سبيل المؤمنين الذين أمرنا باتباعهم(51)، فلا يلتفت إليه ولا يعد خلافًا، وسيأتي الكلام في هذا المعنى مستوعبًا في باب الغسل إن شاء الله تعالى(52).
          وقوله: (أَو قُحِطْتَ) هكذا(53) وقع في الأمهات وذكر صاحب «الأفعال» قال: يقال(54): أقحط الرجل إذا أكسل في الجماع عن الإنزال، ولم يذكر قحط والله(55) أعلم.


[1] قوله ((ابن عبد الله)) ليس في (م).
[2] في (ص): ((وعطاؤ ومحمد بن علي)).
[3] في (ص): ((وقال)).
[4] قوله ((هكذا رواه المستملي إلى قوله: هي الصواب)) ليس في (م).
[5] في (ز): ((صلاته)) والمثبت من (م) و (ص).
[6] في (ص): ((ما دام في المسجد))، في (م): ((مسجد)).
[7] قوله ((أعجمي)) ليس في (م).
[8] في (م) و (ص): ((الضرطة)).
[9] في (ص): ((قال ◙)).
[10] في (م): ((فقال)).
[11] في (م): ((والزبير وطلحة)).
[12] قوله ((الخدري)) ليس في (م).
[13] في (م): ((النبي)).
[14] قوله: ((صلعم)) ليس في (ص).
[15] في (م): ((في)).
[16] زاد في (م): ((له)).
[17] في (ص): ((فقال ◙)).
[18] في (ص): ((فقال ◙)).
[19] قوله ((عليه)) ليس في (م).
[20] في (ص): ((وهذا)).
[21] زاد في (م): ((وأصحابه)).
[22] قوله ((أن)) ليس في (م).
[23] في (م): ((مما)).
[24] قوله ((عليه)) ليس في (م).
[25] في (م): ((يسيل)).
[26] في (م): ((في الرعاف الوضوء)).
[27] في (م): ((القول)).
[28] في (ص): ((قول)).
[29] زاد في (م): ((أيضًا)).
[30] في (م) و (ص): ((لا وضوء إلا من)).
[31] في (م): ((وأما)).
[32] في (م): ((ينتقض)).
[33] في (م) و (ص): ((ينقض)).
[34] في (م): ((وهو قول الثوري وأبي حنيفة وأصحابه)).
[35] زاد في (م): ((في الصلاة)).
[36] في (م): ((فهو)).
[37] في (م): ((والشعبي)).
[38] في (ص): ((عطاء والنخعي والشافعي)).
[39] في (ص) والمطبوع: ((مالك)).
[40] في (ص): ((عن النخعي مثله)).
[41] زاد في (ص): ((من السهم)).
[42] قوله ((قال مكحول والنخعي والزهري... حجة في ذلك أيضًا)) ليس في (م)، وفي (م) بدلها: ((سأذكرها في باب إذا أدخل رجليه وهما طاهرتان في أبواب المسح على الخفين بعد هذا إن شاء الله تعالى)).
[43] في (م): ((فلا)).
[44] في (م): ((وضوء)).
[45] في (م): ((موضعه)).
[46] زاد في (م): ((أبي)).
[47] زاد في (م): ((الخدري)).
[48] في (م): ((مجاوزة الختان الختان)).
[49] في (م): ((الأكثر)).
[50] في (م): ((بالتزام))، وفي (ص): ((والتزم)).
[51] في (م): ((الذي أمر باتباعه)).
[52] قوله: ((تعالى)) ليس في (ص).
[53] في (م): ((هذا)).
[54] في (م): ((فقال)).
[55] في (م): ((فالله)).