شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الاستنجاء بالحجارة

          ░20▒ باب الاسْتِنْجَاء بِالْحِجَارَةِ.
          فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: (اتَّبَعْتُ النبي صلعم وَخَرَجَ لِحَاجَتِهِ فَكَانَ(1) لا يَلْتَفِتُ، فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَقَالَ: ابْغِنِي أَحْجَارًا أَسْتَنْفِضْ بِهَا _أَوْ نَحْوَهُ_ وَلا تَأْتِنِي بِعَظْمٍ(2) وَلا رَوْثٍ، فَأَتَيْتُهُ بِأَحْجَارٍ بِطَرَفِ ثِيَابِي فَوَضَعْتُهَا إلى جَنْبِهِ وَأَعْرَضْتُ عَنْهُ، فَلَمَّا قَضَى أَتْبَعَهُ بِهِنَّ). [خ¦155]
          قال المؤلف(3): الاستنجاء هو إزالة النجو من المخرج بالأحجار أو بالماء، واختلف العلماء في ذلك هل هو فرض أو سنة؟ فذهب مالك والكوفيون إلى أنه سنة لا ينبغي تركها فإن صلى كذلك فلا إعادة عليه إلا أن مالكًا يستحب له الإعادة في الوقت، وذهب الشافعي وأحمد وأبو ثور إلى أن الاستنجاء فرض ولا تجزئ صلاة من صلى بغير استنجاء بالأحجار أو بالماء، واحتجوا بأن النبي صلعم أمر بالاستنجاء بثلاثة أحجار، وكل(4) نجاسة قُرنت في الشرع بعدد فإن إزالتها واجبة كولوغ الكلب، وسيأتي الكلام على من أوجب العدد في أحجار الاستنجاء في الباب بعد هذا إن شاء الله تعالى، وأما(5) غسل الولوغ عند مالك وأصحابه فليس لنجاسة وسيأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى(6)، والحجة لقول مالك والكوفيين أنه معلوم أن الحجر لا يُنقي إنقاء الماء، فلما وجب أن يقتصر على الحجر في ذلك مع بقاء أثر الغائط علم أن إزالة النجاسة سنة، وقد سئل ابن سيرين عن رجل صلى بغير استنجاء فقال: لا أعلم به بأسًا، وقيل لسعيد بن جبير: إزالة النجاسة فرض؟ فقال: اتل عليَّ به قرآنًا، قال ابن القصار: فرأى أن الفرض لا يكون إلا بقرآن، / وقد يكون ببيان الرسول صلعم لمجمل القرآن، فأما ما يبتدئه ◙ فليس بفرض؛ ومن الاستنجاء بالأحجار جعل أهل العراق أصلًا أن مقدار الدرهم من النجاسات فما دون(7) معفو عنه قياسًا على دور الدبر لأن الحجر لا يزيل أثر الغائط منه إزالة صحيحة.
          واختلفوا هل يجوز الاستنجاء بكل ما يقوم مقام الأحجار من الآجر والخزف والتراب وقطع الخشب؟ فأجاز مالك وأبو حنيفة والشافعي الاستنجاء بكل ما يقوم مقام الحجارة في إزالة الأذى ما لم يكن مأكولًا أو نجسًا، وقال أهل الظاهر: لا يجوز الاستنجاء بغير الأحجار، قال ابن القصار: وحجة الفقهاء(8) أنه صلعم لما نهى عن العظم والروث دل أن ما عداهما بخلافهما وإلا لم يكن لتخصيصهما بالنهي فائدة، فإن قيل: إنما نص عليهما تنبيهًا أن ما عداهما في معناهما، قيل: هذا لا يجوز لأن التنبيه إنما يفيد إذا كان في المنبه عليه معنى المنبه له(9) وزيادة، فأما أن يكون دونه في المعنى فلا يفيد كقوله تعالى: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ}[الإسراء:23]دخل فيه الضرب لأن الضرب فيه أف وأبلغ منه، ولو نص على الضرب لم يكن فيه التنبيه على المنع من أف لأنه ليس في أف معنى الضرب، وقد قال تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ}[آل عِمْرَان:75]فعلم أن من أدى الأمانة في القنطار كان أولى أن يؤديها في الدينار، ومن لم يؤدها في الدينار كان أولى ألا يؤديها في القنطار، وكذلك ما عدا الروث والرِّمة من الطاهرات لأنه ليس في الطاهرات معنى الروث والرِّمة، فلم يقع التنبيه عليها بل وقع على ما في معناها من سائر النجاسات التي هي أعظم منها.


[1] في (م): ((وكان)).
[2] في (م): ((أستنفض بها ولا تأت بعظم)).
[3] قوله ((المؤلف)) ليس في (م).
[4] في (ص): ((فكل)).
[5] في (ص): ((بعدها إن شاء الله فأمَّا)).
[6] قوله: ((تعالى)) ليس في (ص).
[7] في (م): ((من النجاسات فدون)).
[8] في (م): ((الجماعة)).
[9] في (م): ((به)).