شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب مسح الرأس كله

          ░38▒ باب مَسْحِ الرَّأْسِ كُلِّهِ.
          لِقَوْلِهِ تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ}[المائدة:6].
          وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: الْمَرْأَةُ بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ تَمْسَحُ على رَأْسِهَا، وَسُئِلَ مَالِكٌ: أَيُجْزِئُ أَنْ يَمْسَحَ بَعْضَ رَأْسِهِ؟ فَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ.
          فيه: عَبْدُ اللهِ بْنُ زَيْدٍ أن رجلًا قَالَ لهُ: (هل تَسْتَطِيعُ أَنْ تُرِيَنِي كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلعم يَتَوَضَّأُ؟ فَدَعَا بِمَاءٍ فَأَفْرَغَ على يَدَيْهِ، فَغَسَلَ يَدَيه مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ تمَضْمَضَ(1) وَاسْتَنْثَرَ ثَلاثًا، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاثًا، ثُمَّ غَسَلَ يَدَيْهِ إلى الْمِرْفَقَيْنِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ، بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ ثُمَّ ذَهَبَ بِهِمَا إلى قَفَاهُ ثُمَّ رَدَّهُمَا إلى الْمَكَانِ الذي بَدَأَ مِنْهُ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ). [خ¦185]
          اختلف أهل التأويل في قوله تعالى: {وَامسَحُوا بِرُءوسِكُم}[المائدة:6]فقالت طائفة(2): المراد منه مسح جميع الرأس، واحتجوا في ذلك بحديث عبد الله بن زيد، قالوا: وهذا الحديث يدل على عموم الرأس بالمسح كعموم ما سواه من الأعضاء بالغسل، هذا قول مالك؛ وقال آخرون: بل الفرض مسح بعضه، واختلف أهل هذه المقالة في مقدار الممسوح منه، فقال أبو حنيفة وأصحابه: إنْ مسح ربع رأسه أجزأه، ويبدأ بمقدم رأسه، وقال الحسن بن حي: يبدأ بمؤخر رأسه، وقال محمد بن مسلمة صاحبُ مالك: يجزئه أن يمسح ثلثي رأسه، وقال أشهب: إن اقتصر على ثلثه أجزأه، ذكره عنه ابن القصار، وروى البرقي عن أشهب فيمن مسح مقدم رأسه: يجزئه، وهو قول الأوزاعي والليث، قال: وذكر ابن القصار عن الثوري والشافعي(3): يجزئه مسح(4) ما يقع عليه الاسم، وقالوا: المسح في لسان العرب ليس شأنه الاستيعاب، واحتج الطحاوي لأصحابه قال: لما احتمل قوله تعالى: {وَامسَحُوا بِرُءوسِكُم}[المائدة:6]مسح جميع الرأس واحتمل مسح بعضه ودلت السنة في حديث المغيرة أن بعضه يجزئ، دل أن ذلك هو الفرض، وروى حماد بن زيد عن أيوب عن ابن سيرين عن عَمْرو بن وهب الثقفي عن المغيرة بن شعبة: ((أن النبي صلعم مسح بناصيته وعلى عمامته)) ورواه ابن عون عن ابن سيرين عن المغيرة.
          وقالوا في حديث عبد الله بن زيد (أن النبي صلعم مسح رأسه كله): وليس في ذلك ما يدل على أنه الفرض لأنا رأيناه صلعم توضأ مرتين مرتين وثلاثًا ثلاثًا لا على أن ذلك هو الفرض(5)، ولكن منه فرض ومنه فضل، ولما اكتفى ◙ بمسح الناصية عن مسح بقية الرأس دل أن الفرض في مسحه هو مقدار الناصية وأن ما فعله في حديث عبد الله بن زيد وغيره / مما جاوز به الناصية(6) كان على الفضل لا على الوجوب حتى لا تَتضادَّ الأحاديث(7)، قالوا: ومن طريق النظر أنَّا ومخالفونا نمسح على الخفين ونُجمعُ على أن المسح عليهما لا يعمهما لأن من كان منا يمسح عليهما خطوطًا بالأصابع يقول: لا يمسح جانبيهما ولا أعقابهما ولا بطونهما، ومن كان منا يمسح على ظهورهما وعلى بطونهما(8) لا يمسح على جوانبهما ولا على أعقابهما(9)، فدل ذلك على أن ما فرضه المسح لا يراد عمومه وإنما يراد بعضه، فأدخل عليهم الآخرون وقالوا: وجدنا المتيمم(10) يعم بالمسح الوجه واليدين فكذلك المسح في الوضوء ينبغي أن يعم به العضو الممسوح قياسًا ونظرًا، ولأن الأمة مجمعة أن من مسح برأسه كله فهو مؤَدٍّ لفرضه، واختلفوا فيمن مسح بعضه، فالواجب أن لا يؤدي فرض الوضوء إلا بيقين وهو مسح الرأس كله، فكان من حجة الآخرين(11) عليهم أن التيمم يشبه بعضه بعضًا، ومنه التيمم على الوجه يعم به، ومنه التيمم على اليدين يُعَمَّان به، والوضوء ليس كذلك، فمنه المسح على الخفين اللذين لا يُعمَّان به، والمسح على الرأس الذي منه أشبه بالمسح على الخفين الذي منه من مسح التيمم الذي ليس منه، وقياس مسح الوضوء على مسح الوضوء أصح من قياسه على مسح التيمم، هذا قول الطحاوي. وقال غيره: ويقال لمن زعم أن مسح الوجه في التيمم لا يجزئ بعضه فكذلك مسح الرأس أن(12) مسح الوجه في التيمم بدل من عموم غسله، فلا بد أن يأتي بالمسح على جميع مواضع الغسل منه، ومسح الرأس أصل، فهذا فرق ما بينهما.
          واحتج الذين قالوا بمسح جميع الرأس بأن الباء في قوله ╡(13): {بِرُؤوسِكُم}[المائدة:6]للإلصاق لا للتبعيض، وهو قول سيبويه وغيره لا اختلاف(14) في ذلك بين بصري وكوفي كقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}[الحج:29]وقد أجمعوا أنه لا يجوز الطواف ببعضه فكذلك(15) مسح الرأس، قال ابن القصار: ويقال لمن احتجَّ بأنه ◙ ((مسح بناصيته)): يحتمل أن يراد البعض وأن يراد الكل كقوله تعالى: {فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَام}[الرحمن:41]فالنواصي هاهنا الرؤوس، ولا يجوز أن يراد بعضها(16)، والحديث غير صحيح لأن راويه عن أنس(17) مَعْقِل بن مسلم، وصحيحه مرسل عن المغيرة، ولو صح لكانت لنا فيه حجة لأن النبي صلعم لما لم يقتصر على مسح الناصية حتى قرن إلى ذلك مسح العمامة عُلِمَ أنه لا يجوز الاقتصار على الناصية، ويصرف مسحه على العمامة إلى(18) العذر، وأيضًا فإن الصحابة بأجمعها نقلت وضوء رسول الله صلعم قولًا وفعلًا أنه مسح رأسه كله، وشذت رواية أنه مسح بناصيته وحكت منه فعلة وقعت في بعض الأوقات، فكان حملها على العذر أولى لأنه لو أراد أن يُعَلِّم الناس الواجب لبين ذلك كما(19) قال لما توضأ مرة مرة: ((هذا صفة الوضوء الذي لا يقبل الله الصلاة إلا به)) قال عبد الواحد(20): ولا حجة للحسن بن حي في قوله في الحديث: (فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ) على جواز أن يبدأ بمؤخر رأسه بالمسح لأن قوله: (فَأَدْبَرَ بِهِمَا وَأَقْبَلَ(21)) يحتمل التقديم والتأخير إذ لا توجب الواو رتبة، وقد خرج البخاري هذا الحديث في باب الوضوء من التَّور وقال فيه: (فَأَدْبَرَ بِهِمَا وَأَقْبَلَ(22)) وهذا نص أنه بدأ بمقدم رأسه، وقد بين ذلك ما رواه مالك في حديث(23) هذا الباب قال(24): ((فأقبل بهما وأدبر بدأ بمقدم رأسه، ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ(25) منه)) وفي حديث هذا الباب جواز غسل بعض أعضاء الوضوء مرتين وبعضها ثلاثًا في وضوء واحد دليل على جواز غسل بعض أعضاء الوضوء مرة وبعضها أكثر من ذلك.
          وقوله: (ثم) في جميع الحديث لم يرد بها المهلة، وإنما أراد بها الإخبار(26) عن صفة الغسل، و (ثم) هاهنا بمعنى الواو.


[1] في (م): ((مضمض)).
[2] زاد في (م): ((من أهل العلم)).
[3] زاد في (م): ((وهو قول الأوزاعي والليث عن الطحاوي، وقال الثوري والشافعي)).
[4] قوله ((مسح)) ليس في (م).
[5] في (م): ((لا أن ذلك فرض)).
[6] في (م): ((وأن ما فعله مما جاوز به الناصية في حديث عبد الله بن زيد وغيره)).
[7] في (م): ((الآثار)).
[8] قوله ((بطونهما)) ليس في (م).
[9] في (م): ((لا يمسح جوانبهما ولا أعقابهما)).
[10] في (م): ((التيمم)).
[11] في (م): ((الحجة الأخرى)).
[12] في المطبوع: ((لأن)).
[13] قوله: ((╡)) ليس في (ص).
[14] في (م): ((خلاف)).
[15] في (ص): ((كذلك)).
[16] في (ص): ((غيرها)).
[17] في (م): ((ابن)).
[18] في (ص): ((على)).
[19] زاد في (م): ((لما)).
[20] في (م): ((قال غيره)).
[21] في (م): ((فأقبل بهما وأدبر)).
[22] في (م): ((فأقبل بهما وأدبر)).
[23] في (م): ((وقد بين ذلك قوله في حديث)).
[24] قوله ((قال)) ليس في (م).
[25] في (م): ((بدأه)).
[26] في (م): ((أراد الإخبار بها)).