شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الماء الدائم

          ░68▒ بَابُ: لَا يَبُوْلُ في المَاءِ الدَّائِمِ.
          فيهِ: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ(1) رَسُولُ الله صلعم: (نَحْنُ الآخِرُوْنَ السَّابِقُوْنَ). [خ¦238]
          وَبِإِسْنَادِهِ قَالَ: (لا يَبُوْلَنَّ أَحَدُكُمْ في المَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَجْرِي ثمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ). [خ¦239]
          قالَ المُهَلَّبُ وغيره: النَّهي عن البولِ في الماءِ الدائمِ مردودٌ إلى الأصولِ، فإن كان الماء كثيرًا فالنَّهي عن(2) ذلك على وجه التَّنزُّه(3) لأنَّ الماء على الطَّهارة حتَّى يتغيَّر أحدُ أوصافه، فإن كان الماء قليلًا فالنَّهي عن(4) ذلك على الوُجُوب لفساد الماء بالنَّجاسة المغيِّرة له.
          ولم يأخذ أحد من الفقهاء بظاهر هذا(5) الحديث إلَّا رجلٌ جاهلٌ يُنسب(6) إلى العلم وليس مِن أهله، اسمه دَاوُدُ(7) بنُ عليٍّ، فقال: من بال في الماء الدَّائم فقد حرُم عليه الوضوء به، قليلًا كان الماء أو كثيرًا،(8) فإن بال في إناءٍ وصبَّه في / الماء الدَّائم جاز له الوضوء به؛ لأنَّه إنَّما نُهي عن البول فقط بزعمه، وصبُّه للبول من الإناء ليس ببولٍ(9) فلم يُنه عنه، قال(10): ولو بال خارجًا مِن(11) الماء الدَّائم فسال فيه جاز له أن يتوضَّأ به. قال: ويجوز لغير البائل أن يتوضَّأ فيما بال فيه غيره؛ لأنَّ النَّبيَّ صلعم إنَّما نهى البائل ولم ينه غيره. وقال ما هو أشنع مِن هذا: أنَّه إذا تغوَّط في الماء الدَّائم كان له ولغيره أن يتوضَّأ منه(12)؛ لأنَّ النَّهي إنَّما ورد(13) في البول فقط، ولم ينه عن الغائط. وهذا غايةٌ في السُّقوط وإبطال المعقول، ومن حمله طرد أصله في إنكار القياس إلى التزام مثل هذا المنكر(14)، فلا يشكُّ في عناده وقلَّة ورعه، نعوذ بالله مِن الخذلان، وقد فطر الله تعالى العقول السَّليمة على مُنافرة قوله هذا ومضادَّته. وإنَّما أُتي الرَّجل(15) مِن جهله بالأسباب التي خَرَجَ عليها معنى الخطاب. والنَّبيُّ صلعم قد جمع في هذا الخبر معاني: أحدها: تحريم الوضوء بالماء النَّجس. والآخر: تأديبهم بأن يتنزَّهوا عن البول في الماء الَّذي لا يجري فيحتاجون إلى الوضوء منه، وهم على يقين مِن استقرار البول فيه؛ لأنَّ من سنَّته ◙ النَّظافة وحسن الأدب، فدعا النَّاس إلى ذلك. والآخر(16): أنَّه زجرهم عن ذلك، إذ لو أطلق لهم البول في الماء الدَّائم(17) لأوشك أن يفسد الماء القليل ويتغيَّر فيضيق وجود ماءٍ طاهرٍ على كثيرٍ مِن النَّاس.
          فيُقال(18) له: خَبِّرْنَا عن البائل في البحر أو الحوض الكبير أو الغدير الواسع الَّذي لا يتحرَّك(19) طرفه، هل يجوز له(20) أن يتوضَّأ منه؟ فإن قال: لا، قال: ما تعرف أنَّ الحقَّ في خلافه؟ وإن أجاز ذلك قيل له: فقد تركت ظاهر الحديث، وفي ضرورتك إلى تركك ظاهره ما يوجب عليك أن تقول: إنَّ معنى الحديث ما ذكرنا، قاله بعض أصحاب أبي حنيفة. وأمَّا إدخال البخاريُّ في أوِّل الحديث: (نَحْنُ الآخِرُوْنَ السَّابِقُوْنَ يَوْمَ القِيَامَةِ) فيمكن أن يكون _والله أعلم_ سمع(21) أبو هريرة ذلك مِن النَّبيِّ صلعم في نسقٍ واحدٍ فحدَّث بهما جميعًا كما سمعهما. وقد ذكر(22) مثل ذلك في كتاب الجهاد [خ¦2850]، وفي كتاب العبارة [خ¦7036]، وفي كتاب الأيمان والنُّذُور [خ¦6624]، وفي كتاب قصص الأنبياء [خ¦3486]، وفي كتاب الاعتصام [خ¦7495]، ذكر في أوائل الأحاديث كلِّها: ((نَحْنُ الآخِرُوْنَ السَّابِقُوْنَ يَوْمَ القِيَامَةِ))، ويمكن أن يكون هَمَّامٌ فعل(23) ذلك؛ لأنَّه سمع من أبي هريرةَ أحاديث ليست بكثيرةٍ، وفي أوائلها(24): ((نَحْنُ الآخِرُوْنَ السَّابِقُوْنَ))، فذكرها على الرُّتبة الَّتي سمعها من أبي هريرة، والله أعلم. وقد روى مالكٌ في «موطَّئه» مثل هذا في موضعين: أحدهما: قول عبدِ الكريمِ بنِ أبي المُخَارِقِ: و(25) ((إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاس مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الأُوْلَى(26): إِذَا لَمْ تَسْتِحِي فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ، وَوَضْعُ اليَدِ اليُمْنَى عَلَى(27) اليُسْرَى في الصَّلاةِ))، فحدَّث بهما جميعًا كما سمعهما. وفي(28) الموضع الثَّاني: قول أبي هريرةَ عن النَّبيِّ صلعم: ((بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيْقٍ(29) إِذْ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ فَأَخَّرَهُ(30) فَشَكَرَ اللهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ)). وقالَ(31): ((الشُّهَدَاءٌ خَمْسَةٌ: المَطْعُونُ، والمَبْطُونُ، والغَرِقُ(32)، وصَاحِبُ الهَدْمِ، والشَّهِيْدُ في سَبِيْلِ اللهِ)). ورواه جماعةٌ عن مالكٍ، فزاد فيه: أنَّ النَّبيَّ ◙ قالَ: ((لَوْ يَعْلَمُ النَّاس مَا في النِّدَاءِ والصَّفِ الأَوَّلِ ثمَّ لمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا(33)، وَلَوْ يَعْلَمُوْنَ مَا في التَّهْجِيْرِ لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ(34)، وَلَوْ يَعْلَمُوْنَ ما في العَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا)). قالَ(35) رَسُولُ اللهِ صلعم(36): ((بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيْقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ)) إلى آخر الحديث في ذكر الشُّهداء، وهي ثلاثة أحاديثٍ في حديثٍ واحدٍ.


[1] زاد في (م): ((سمعت)).
[2] في (ص): ((في)).
[3] في (م): ((التَّنزيه)).
[4] في (ص): ((في)).
[5] في (ص): ((هذا)).
[6] في المطبوع و(ص): ((نسب)).
[7] في (م): ((ينسب إلى العلم يقال له داود)).
[8] زاد في (م): ((قال)).
[9] زاد في (م): ((فيه)).
[10] قوله: ((قال)) ليس في (م).
[11] في (م): ((عن)).
[12] في (م) وضع فوق ((منه)): ((به)).
[13] في (م): ((جاء)).
[14] في المطبوع و(ص): ((النَّظر)).
[15] قوله: ((الرَّجل)) ليس في (م).
[16] في (ص): ((فالآخر)).
[17] قوله: ((الدَّائم)) ليس في (م).
[18] في (م): ((ويقال)).
[19] زاد في (م) والمطبوع و(ص): ((بتحرك)).
[20] قوله: ((له)) ليس في المطبوع.
[21] في (ص): ((فيمكن والله أعلم أنه سمع)).
[22] في (م): ((ذكرنا)).
[23] في المطبوع و(ص): ((سمع)).
[24] في (م): ((أوَّلها)).
[25] قوله: ((و)) ليس في (م).
[26] قوله: ((الأولى)) ليس في (ص).
[27] زاد في (ص): ((اليد)).
[28] قوله: ((في)) ليس في (م).
[29] في (ص): ((في الطريق)).
[30] في (م) والمطبوع و(ص): ((فأخذه)).
[31] في المطبوع و(ص): ((قال)).
[32] في (م): ((والغريق)).
[33] زاد في المطبوع ((عليه)).
[34] في (م): ((عليه)).
[35] في (م): ((وقال)).
[36] في (ص): ((قال ◙)).