شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان

          ░33▒ باب الْمَاءِ الذي يُغْسَلُ بِهِ شَعرُ / الإنْسَانِ.
          وَكَانَ عَطَاءٌ لا يَرَى بَأْسًا أَنْ يُتَّخَذَ مِنْهَا الْخُيُوطُ وَالْحِبَالُ؛ وَسُؤْرِ الْكِلابِ وَمَمَرِّهَا في الْمَسْجِدِ، قَالَ(1) الزُّهْرِيُّ: إِذَا وَلَغَ في إِنَاءٍ لَيْسَ لَهُ غَيْرُهُ يَتَوَضَّأُ بِهِ، قَالَ سُفْيَانُ: هَذَا الْفِقْهُ بِعَيْنِهِ لقول اللهِ ╡: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}[المائدة:6]وَهَذَا مَاءٌ، وفي النَّفْسِ مِنْهُ شيء يَتَوَضَّأُ بِهِ وَيَتَيَمَّمُ.
          فيه: ابْنُ سِيرِينَ قُلْتُ لِعَبِيدَةَ: عِنْدَنَا مِنْ شَعرِ النبي صلعم، أَصَبْنَاهُ مِنْ قِبَلِ أَنَسٍ، قَالَ: لأنْ تَكُونَ عِنْدِي منه شَعرَةٌ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا. [خ¦170]
          وفيه: أَنَس: (أَنَّ النبي صلعم(2) لَمَّا حَلَقَ رَأْسَهُ كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَوَّلَ مَنْ أَخَذَ مِنْ شَعرِهِ). [خ¦171]
          قال المُهَلَّب: هذه الترجمة أراد بها البخاري رد قول الشافعي أن شعر الإنسان إذا فارق الجسد نَجُس وإذا(3) وقع في الماء نجَّسه، وذكر قول عطاء: أنه لا بأس باتخاذ الخيوط منها والحبال، ولو كان نجسًا لَمَا جاز اتخاذه، ولَمَّا جاز اتخاذ شعر النبي صلعم والتبرك به عُلِمَ أنه طاهر، وعلى قول عطاءٍ جمهورُ العلماء، قال المُهَلَّب: وفي حديث أنس دليل على أن ما أُخذ من جسد الإنسان من شعر أو ظفر أنه ليس بنجس، وقد جعل خالد بن الوليد في قلنسوته(4) من شعر النبي صلعم، فكان يدخل بها في(5) الحرب، فسقطت له يوم اليمامة، فاشتد عليها شدة أنكر عليه أصحاب النبي صلعم(6) مَنْ قُتِلَ فيها من المسلمين، فقال: إني لم أفعل ذلك لقيمتها لكني كرهت أن تقع بأيدي المشركين وفيها من شعر النبي صلعم(7).
          وأما قوله: (إِنَّ أَبا طَلْحَة أَوَّلُ مَنْ أَخَذَ مِنْ شَعر النبيِّ صلعم(8)) فإنه صلعم لما حلق رأسه ناول أبا طلحة شعره فقسمه بين الناس، ذكر ذلك ابن المنذر قال: ومن قول أصحابنا أن من مس عضوًا من أعضاء زوجته أن عليه الوضوء، وليس على مَن مسَّ شعرها طهارة.
          وذكر في الباب أربعة أحاديث في الكلب:
          أولها حديث أبي هُرَيْرَةَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: (إِذَا شَرِبَ الْكَلْبُ في إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا). [خ¦172]
          وحديثه صلعم: (أَنَّ رَجُلا رَأَى كَلْبًا يَأْخُذُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ، فَأَخَذَ الرَّجُلُ خُفَّهُ، فَجَعَلَ يَغْرِفُ لَهُ(9) حَتَّى أَرْوَاهُ، فَشَكَرَ اللهُ لَهُ فَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ). [خ¦173]
          وحديث حَمْزَة بْن عَبْدِ اللهِ عَنْ أَبِيهِ: (كَانَتِ الْكِلابُ تُقْبِلُ وَتُدْبِرُ في الْمَسْجِدِ في زَمَنِ النبي صلعم فَلَمْ يَكُونُوا يَرُشُّونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ). [خ¦174]
          وحديث عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ أن النبي صلعم قَالَ: (إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ فَقَتَلَ فَكُلْ). [خ¦175]
          وهذه الأحاديث معلقة(10) بقوله في الترجمة: وسؤر الكلاب وممرها(11) في المسجد، فتقدير الترجمة باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان وباب سؤر الكلاب، وغرضه في ذلك إثبات طهارة الكلب وطهارة سؤره، واختلف العلماء في الماء الذي ولغ(12) فيه الكلب فقالت طائفة: الماء طاهر يُتطهر به للصلاة ويُغتسل به(13) إذا لم يجد غيره، هذا قول الزهري ومالك والأوزاعي، وقال الثوري وابن الماجشون وابن مسلمة من أصحاب مالك: يتوضأ به ويتيمم، جعلوه كالماء المشكوك فيه، وذهب أبو حنيفة وأصحابه والليث والشافعي وأبو ثور إلى أن كل(14) ما ولغ فيه الكلب نجس، ذكره ابن المنذر، وحكى الطحاوي عن الأوزاعي: أن سؤر الكلب في الإناء نجس وفي الماء المستنقع ليس بنجس.
          قال(15) ابن القصار: والدليل على طهارته أمره ◙ بغسل الإناء(16) سبعًا، ولو كان ذلك منه لنجاسته لأمر(17) بغسله مرة واحدة إذ التعبد في غسل النجاسة إزالتها لا بعدد من المرات، وقد يجوز أن يؤمر بغسل الطاهر مرارًا لمعنى كغسل أعضاء الوضوء مرَّتين مرَّتين وثلاثًا ثلاثًا والفرض منها مرة واحدة، وقد قال مالك: إذا ولغ في الطعام أُكل الطعام ويغسل الإناء سبعًا اتباعًا للحديث، قال ابن القصار: والدليل على طهارة الكلب(18) أنه قد ثبت في الشرع أن الطاهر هو الذي أبيح لنا(19) الانتفاع به مع القدرة على الامتناع منه لا لضرورة، والنجس ما نهي عن الانتفاع به مع القدرة عليه، وقد قامت الدلالة على جواز الانتفاع بالكلب لا لضرورة كالصيد وشبهه، وإنما أَمَر(20) بغسل الإناء سبعًا على وجه التغليظ عليهم لأنهم نهوا عنها لترويعها الضيف والمجتاز كذلك، قال ابن عمر والحسن البصري: فلما لم ينتهوا غلظ عليهم في الماء لقلة المياه عندهم في البادية حتى / يشتد عليهم فيمتنعون(21) من اقتنائها، لا لنجاسة. قال المُهَلَّب: وأما حديث الذي سقى الكلب فغفر له ففيه دليل على(22) طهارة سؤره لأن الرجل ملأ خفه وسقاه به، ولا شك أن سؤره بقي فيه واستباح لباسه في الصلاة وغيرها دون غسله إذ(23) لم يذكر في الحديث أنه غسله، قال غيره: وفيه وجه آخر وذلك قوله: (فَجَعَلَ يَغْرِفُ(24) حَتَّى أَرْوَاهُ) وذلك يدل أنه تكرر فعله في تناوله الماء من البئر حتى أرواه(25) مرة بعد أخرى، ولو كان سؤره نجسًا لأفسد البئر بذلك.
          قال المُهَلَّب: وفي هذا الحديث دليل أن في كل كبد رطبة أجرًا كان مأمورًا(26) بقتله أو غير مأمور، فكذلك يجب أن يكون في الأسرى من الكفار لأن التعطيش والتجويع تعذيب، والله ╡ لا يريد أن يعذب خلقه بل تمتثل(27) فيهم فضله من الإحسان على عصيانهم.
          وفي حديث حمزة أن الكلب طاهر لأن إقبالها وإدبارها في الأغلب أن تجر فيه أنوفها وتلحس فيه الماء وفتات الطعام؛ لأنه كان مبيت الغرباء والوفود، وكانوا يأكلون فيه، وكان مسكن أهل الصفة، ولو كان الكلب نجسًا لمنع من دخول المسجد لاتفاق المسلمين أن الأنجاس تجنب المساجد، قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـذَا(28)}[التوبة:28]وقوله: (تُقْبِلُ وَتُدْبِرُ) يدل على تكررها(29) على ذلك، وتركهم لها يدل على أنه لا نجاسة فيها لأنه ليس في حيٍّ نجاسة، وقد روى ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب زيادة في هذا الحديث عن ابن عمر قال: ((كانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد، فلم يكونوا يرشون شيئًا من ذلك)) ورواه(30) أبو داود، وأما حديث عدي فهو أدل شيء على طهارة الكلب ولعابه، وقد احتج مالك ☺(31) على طهارته بقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيكُم}[المائدة:4]ومعلوم أنه إذا أمسك علينا فلا بد من وصول لعابه مع أسنانه إلى جسم الصيد، ومعلوم أنهم في مواضع الصيد يسمطونه ويشوونه بغسل وبغير غسل، ولو كان لعابه نجسًا لبيَّن النبي صلعم(32) لمن صاده في مكان لا ماء فيه أن لا يحل له أكله، فلما لم يأت في هذا بيان منه ◙ علم أنه مباح أكله وإن لم يغسل من لعاب الكلب إذ تداخله وغاص فيه، وقال ابن القصار: وأيضًا فإن الله تعالى جعل الكلب المعلم مذكِّيًا للصيد، ومحال أن يبيحنا تذكية نجس العين، وكل حي حصلت منه التذكية فهو طاهر العين كابن آدم.
          وقال محمد(33) بن الجهم ومحمد بن سحنون: اختلف قول مالك في غسل الإناء من ولوغ الكلب، فقيل: إنه جعل معنى الحديث في الكلب الذي لم يؤذن في اتخاذه، وقيل: إنه جعله عامًّا في كل كلب، فالقول(34) الأول هو قول أحمد(35) بن المعذل(36)، وغسله عند مالك مسنون إذا أريد استعماله فإن لم يرد استعماله لم يجب غسله، قال ابن القصار: وهذا مذهب الفقهاء إلا قومًا من المتأخرين حكي عنهم أنه يجب غسله سبعًا سواء أريد استعماله أو لم يرد(37). قال المؤلف: ومن جعل سؤر الكلب نجسًا فغَسل الإناء من ولوغه عنده فرض(38)، ولا يُغسل الإناء عند مالك إذا ولغ في لبن أو طعام، يؤكل الطعام واللبن، وإنما يُغسل في الماء وحده، هذا قوله في المدونة، وذكر ابن حبيب عن مالك أن الإناء يغسل وإن ولغ في ماء أو لبن أو طعام.
          واختلفوا في عدد غسل الإناء من ولوغه، فذهب ابن عباس وعروة وطاوس ومالك والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور إلى أنه يغسل سبعًا اتباعًا لحديث أبي هريرة في ذلك، وقال الحسن البصري: يغسل سبعًا والثامنة بالتراب، واحتج في ذلك(39) بما رواه شعبة عن أبي التياح عن مُطَرِّف بن عبد الله عن عبد الله بن مُغَفَّل: أن النبي صلعم ((أمر بقتل الكلاب، ثم قال: ما لي وللكلاب؟، ثم قال: إذا ولغ الكلب(40) في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات، وعفِّروه الثامنة بالتراب)) وروى عطاء عن أبي هريرة في الإناء يلغ فيه الكلب، قال(41): يُغسل ثلاثًا، وهو قول الزهري، وقال عطاء: كُلًّا قد سمعت سبعًا وخمسًا وثلاث مرات، وقال أبو حنيفة وأصحابه: يُغسل من ولوغ الكلب كما يُغسل من سائر النجاسات ولا عدد في ذلك، وأولى ما قيل به في هذا الباب حديث أبي هريرة في الغسل(42) سبعًا، فهو أصح من / حديث ابن مُغَفَّل ومن كل ما روي في ذلك، فقد اضطرب حديث ابن مُغَفَّل، فروي مرة عن شعبة عن أبي التياح عن مُطَرِّف عن ابن مُغَفَّل: ((أن النبي صلعم أمر بقتل الكلاب، ورخص في كلب الزرع والصيد)) وروي مرة على خلاف هذا، وروى ابن شهاب عن يونس بن عبيد(43) عن ابن مُغَفَّل قال: ((لولا أن الكلاب أمة لأمرت بقتلها، فاقتلوا منها الأسود البهيم)) ومثل هذا الاضطراب يوجب سقوط الحديث.


[1] في (م): ((وقال)).
[2] في (م): ((أن رسول الله صلعم)).
[3] في (م): ((وأنه إذا)).
[4] في (ص): ((قُلنسيته)).
[5] قوله ((في)) ليس في (م).
[6] زاد في المطبوع: ((لقتله)).
[7] قوله: ((صلعم)).
[8] في (م): ((من شعره)).
[9] زاد في (م): ((به)).
[10] في (م): ((متعلقة)).
[11] في (م): ((ومسيرها)).
[12] في (ص): ((يلغ)).
[13] قوله: ((به)) زيادة من (م) و (ص).
[14] قوله ((كل)) ليس في (م).
[15] في (ص): ((قاله)).
[16] زاد في (م): ((منه)).
[17] في (م): ((ولو كان ذلك لنجاسة لأمر)).
[18] زاد في (م) و (ص): ((أيضًا)).
[19] قوله ((لنا)) ليس في (م).
[20] في (م): ((أمروا)).
[21] في (ص): ((يمتنعون)).
[22] في (م): ((دلالة على))، قوله: ((على)) ليس في (ص).
[23] في (ز): ((إذا)) والمثبت من (م) و (ص).
[24] زاد في (م): ((له به)).
[25] قوله ((حتى أرواه)) ليس في (م).
[26] في (م): ((رطبة أجرًا مأمورًا)).
[27] في المطبوع: ((تمثل)).
[28] قوله ((بعد عامهم هذا)) ليس في (م).
[29] في (م): ((تكرارها)).
[30] في (م): ((رواه)).
[31] قوله: ((☺)) ليس في (ص).
[32] زاد في (ص): ((ذلك)).
[33] في (م): ((وقال أبو بكر)).
[34] في (م): ((والقول)).
[35] في (ص) و المطبوع: ((محمد)) وأشار في المطبوع إلى نسخة: ((أحمد)).
[36] في (ز): ((المعدل)) والمثبت من (ص)، وقوله ((المعدل)) ليس في (م).
[37] في (م): ((استعماله أم لا)).
[38] في (م): ((من ولوغه فرض عنده)).
[39] قوله ((في ذلك)) ليس في (م).
[40] قوله ((الكلب)) ليس في (م).
[41] قوله ((قال)) ليس في (م).
[42] في (ص): ((بالغسل)).
[43] زاد في المطبوع: ((عن الحسن)) وذكر في حاشية المطبوع أن هذا الإسناد وقع فيه سقط وتحريف وأن الأصل والنسخة الأخرى ليس فيها ذكر الحسن وأن الصواب ما أثبته كما في كتب الحديث.