شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب المسح على الخفين

          ░48▒ باب الْمَسْحِ على الْخُفَّيْنِ.
          فيه: سَعْدُ بْنُ أبي وَقَّاصٍ(1): (أَن النبي صلعم مَسَحَ على الْخُفَّيْنِ). [خ¦202]
          وَأَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ سَأَلَ أَبَاه عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: إِذَا حَدَّثَكَ سَعْدٌ عَنِ النبي صلعم فَلا تَسْأَلْ عَنْهُ غَيْرَهُ.
          وفيه: الْمُغِيرَة بْنُ شُعْبَةَ: (أَن النبي صلعم خَرَجَ لِحَاجَتِهِ، فَاتَّبَعَهُ الْمُغِيرَةُ بِإِدَاوَةٍ فِيهَا(2) مَاءٌ، فَصَبَّ عَلَيْهِ حِينَ فَرَغَ مِنْ حَاجَتِهِ، فَتَوَضَّأَ وَمَسَحَ على الْخُفَّيْنِ). [خ¦203]
          وفيه: عَمْرو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ: (أَنَّهُ رَأَى رسُول الله صلعم يَمْسَحُ على الْخُفَّيْنِ(3)) رواه شيبان وأبان وحرب عَنْ يَحْيَى بن أبي كثير. [خ¦204]
          ورواه: الأوزاعي عَنْ يَحْيَى بن أبي كثير(4) عَنْ أبي سَلَمَةَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: (رَأَيْتُ النبي صلعم مسَحَ على عِمَامَتِهِ وَخُفَّيْهِ). [خ¦205]
          وَتَابَعَهُ مَعْمَرٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ أبي سَلَمَةَ عَنْ عَمْرٍو: (رَأَيْتُ النبي صلعم).
          اتفق العلماء على جواز المسح على الخفين، ورويت فيه عن مالك روايات، والذي استقر عليه مذهبه جوازه، وقالت الخوارج: لا يجوز أصلًا لأن القرآن لم يَرِدْ به، وقالت الشيعة: لا يجوز لأن عليًّا امتنع منه، وحجة الجماعة ما روي فيه عن النبي صلعم(5) من الطرق التي اشتهرت وعن الصحابة الذين كانوا لا يفارقونه في الحضر ولا في السفر(6)، فمَن(7) نَقل ذلك عنه ◙ عُمَر بن الخطاب وعلي وسعد وابن مسعود والمغيرة(8) وخزيمة بن ثابت وابن عباس وجرير بن عبد الله وأنس وعمرو بن العاص(9) وأبو أيوب وأبو أمامة الباهلي وسهل بن سعد وقيس بن سعد وأبو موسى الأشعري وجابر وأبو سعيد وحذيفة وعمار وأبو مسعود الأنصاري وجابر بن سمرة والبراء بن عازب وأبو بكرة / وبلال وصفوان بن عسال وغيرهم(10) حتى قال الحسن البصري: حدثني سبعون من أصحاب محمد صلعم(11) أنه مسح على الخفين، فجرى مجرى التواتر.
          وحديث المغيرة كان في غزوة تبوك سنة تسع من الهجرة، فسقط بهذا قول من يقول(12): آية الوضوء مدنية والمسح منسوخ بها؛ لأنه متقدم وغزوة تبوك آخر غزاة كانت بالمدينة، والمائدة نزلت بالمدينة قبل هذا، وقد تأول جماعة من الفقهاء قوله ╡: {وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ}[النساء:43]في قراءة من خفض، أراد إذا كانا في الخفين.
          ومما يدل أيضًا(13) أن المسح غير منسوخ حديث جرير: ((أنه رأى النبي صلعم مسح(14) على الخفين)) وكان يعجبهم لأن جريرًا أسلم بعد المائدة، فأعجبهم حين روى المسح عن النبي ◙ بعد نزول المائدة، ولم يقل لهم النبي صلعم(15) عند نزول المائدة أن هذه الآية قد نسخت المسح على الخفين، وأيضًا فإن حديث المغيرة في المسح كان في السفر فأعجبهم استعمال جرير له في الحضر وأنه لم ينسخه شيء، ذكره البخاري في(16) كتاب الصلاة، ولم يرو عن أحد من الصحابة إنكار المسح على الخفين إلا عن ابن عباس، وقد روي عن عليّ(17) وعائشة وأبي هريرة وأبي أيوب فأما ابن عباس وأبو هريرة فقد روي عنهما خلاف ذلك في موافقة(18) سائر الصحابة، وقيل لأحمد بن حنبل: ما تقول فيما روي عن ابن عباس وعائشة وأبي أيوب في إنكار المسح؟ فقال: إنما روي عن أبي أيوب أنه قال: حبب إليَّ الغسل، فإن ذهب ذاهب إلى مثل هذا القول ولم ينكر المسح لم أَعِبه وصلينا خلفه، وقد كان مالك يذهب إلى ذلك ولم ينكر المسح، وإن(19) ترك المسح ولم يره كما صنع أهل البدع فلا نصلي خلفه.
          وقال أبو محمد(20) الأصيلي: ذكر العمامة في هذا الحديث من خطأ الأوزاعي لأن شيبان روى الحديث عن يحيى بن أبي كثير ولم يذكر العمامة، وتابعه حرب بن شَدَّاد وأبان العطار، فهؤلاء(21) ثلاثة من رواة يحيى بن أبي كثير خالفوا الأوزاعي، فوجب تغليب الجماعة على الواحد، وأما متابعة معمر للأوزاعي فهي مرسلة وليس فيها ذكر العمامة، روى عبد الرزاق عن معمر عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن عَمْرو بن أمية قال: ((رأيت رسول الله صلعم يمسح على خفيه)) هكذا وقع في مصنف عبد الرزاق ولم يذكر العمامة، وأبو سلمة(22) لم يسمع من عَمْرو وإنما سمع من ابنه جعفر فلا حجة فيها، وذكر ابن أبي خيثمة عن ابن معين أن حديث عَمْرو بن أمية في المسح على العمامة مرسل.
          واختلف العلماء في المسح على العمامة، فممن كان يمسح عليها أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وأنس بن مالك وأبو أمامة وسعد بن أبي وقاص وأبو الدرداء، وبه قال الثوري والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور، وممن كان(23) لا يرى المسح عليها عَليٌّ(24) وابن عمر وجابر، ومن التابعين عروة والنخعي والشَّعبي(25) والقاسم، وبه قال مالك وأبو حنيفة والشافعي(26)، واحتجوا بقوله تعالى: {وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ(27)}[النساء:43]ومن مسح على العمامة لم يمسح برأسه، وأجمعوا أنه لا يجوز مسح الوجه في التيمم على حائل دونه فكذلك الرأس، وقال ابن وهب عن ابن جُريج عن عطاء: ((بلغنا أن رسول الله صلعم(28) كان يتوضأ وعليه العمامة يؤخرها عن رأسه ولا يحلها، ثم يمسح برأسه، ثم يعيد عمامته)) وقال ابن وهب: حدثنا معاوية بن صالح عن عبد العزيز بن مسلم عن أبي مَعْقِل عن أنس بن مالك قال: ((رأيت النبي صلعم(29) يتوضأ وعليه عمامة قِطْرِيَّة، فأدخل(30) يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه، ولم ينقض العمامة)).
          واختلف العلماء في صفة المسح على الخفين، فذهب ابن عمر وسعد بن أبي وقاص إلى أنَّ الكمال والسنة مسح أعلاهما(31) وأسفلهما، وبه قال مالك والشافعي، وقال ابن القاسم: لو مسح رجل ظاهر الخف ثم صلَّى(32) فأَحَبُّ إليّ أن يعيد في الوقت لأن عروة كان لا يمسح بطونهما، فهذا يدل على أنه إن اقتصر على الظهور دون البطون أنه يجزئه في مذهب مالك، وقالت طائفة: إن الممسوح أَعلى الخف، فإن(33) أسفله ليس بمحل للمسح لا مسنونًا ولا جائزًا، وذكر أنه قول أنس بن مالك، وهو مذهب الشَّعبي والنخعي والأوزاعي والثوري وأبي حنيفة، واحتجوا بما رووه عن المغيرة: ((أن النبي مسح على ظهور خفيه)) والذي ذكر البخاري في هذا الباب عن سعد والمغيرة: (أن النبي مسح على الخفين) دون ذكر أعلاهما أو أسفلهما(34)، وهذا لفظ محتمل للتأويل أن يفعل في الخف ما يسمى مسحًا إلا أن الصحابة مجمعة أنه إن مسح أسفله دون أعلاه لم يجزئه وهو قول / فقهاء الأمصار، وذكر المزني عن الشافعي أنه يجوز الاقتصار على أسفل الخف دون أعلاه، وذكره ابن(35) عبد الحكم عن أشهب، واختلفوا في الخف المخرَّق يمسح عليه؟ فقال مالك: يمسح إذا كان خَرْقًا يسيرًا لا يظهر منه القدم، وقال بعض أصحابه: معناه أن يكون الخرق لا يمنع من لبسه والانتفاع به، وهو قول الليث والشافعي، وقال الثوري: يمسح وإن تفاحش خرقه وما دام يسمى خُفًّا، وقد كانت خفاف المهاجرين والأنصار لا تسلم من الخرق، وهو قول أبي ثور وإسحاق، وقال(36) الأوزاعي: يمسح الخُفَّ وما ظهر من القدم، وهو قول الطبري في جواز المسح على القدمين، وقال الحسن بن حي: يمسح على الخف إذا كان ما ظهر منه يغطيه الجورب، فإن(37) ظهر شيء من القدم لم يمسح، وقال أبو حنيفة وأصحابه: يمسح إذا ظهر من الرِّجْل أقل من ثلاثة أصابع، ولا يمسح إذا ظهر ثلاثة أصابع.


[1] قوله ((ابن أبي وقاص)) ليس في (م).
[2] في (م): ((من)).
[3] في (م): ((وفيه عمرو بن أمية الضمري أن النبي صلعم مسح على الخفين)).
[4] قوله: ((ورواه الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير)) ليس في (ص).
[5] في (ص): ((عن الرسول)).
[6] في (م): ((في الحضر والسفر)).
[7] في (م) و (ص): (فممن).
[8] في (م): ((والمغيرة وابن مسعود)).
[9] في (م): ((العاصي)).
[10] في (م): ((وغير هؤلاء)).
[11] قوله: ((صلعم)) ليس في (ص).
[12] زاد في (م): ((إن)).
[13] زاد في (م): ((على)).
[14] في (م): ((يمسح)).
[15] قوله: ((صلعم)) ليس في (ص).
[16] في (م): ((ذكر البخاري جرير في)).
[17] قوله ((وقد روي عن علي)) ليس في (م).
[18] في (م): ((وموافقة)).
[19] في (م): ((فإن)).
[20] قوله ((أبو محمد)) ليس في (م).
[21] في (م): ((وهؤلاء)).
[22] زاد في (م): ((أيضًا)).
[23] قوله ((كان)) ليس في (م).
[24] زاد في (م): ((ابن أبي طالب)).
[25] في (ص): ((والشعبي والنخعي)).
[26] قوله: ((والشافعي)) ليس في (ص).
[27] زاد في (م): ((وأرجلكم)).
[28] قوله: ((صلعم)) ليس في (ص).
[29] قوله: ((صلعم)) ليس في (ص).
[30] في (ص): ((وأدخل)).
[31] في (م): ((أعلى الخفين)).
[32] في (م): ((وصلى)).
[33] في (م): ((وإن)).
[34] في (م): ((وأسفلهما)).
[35] في (ز): ((وذكر أنَّ)) والمثبت من (م) و (ص).
[36] في (م): ((قال)).
[37] في (م): ((وإن)).