شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب غسل المني وفركه وغسل ما يصيب من المرأة

          ░64▒ [بابُ: غَسْلِ المَنِيِّ وَفَرْكِهِ وَغَسْلِ مَا يُصِيبُ مِنَ(1) المَرْأَةِ.
          فيهِ: عَائِشَةُ قَالَتْ: (كُنْتُ أَغْسِلُ الجَنَابَةَ مِنْ ثَوْبِ النَّبيِّ صلعم فَيَخْرُجُ إِلَى الصَّلَاةِ، وَإِنَّ بُقَعَ المَاءِ في ثَوْبِهِ). [خ¦229]
          واختلف(2) العلماء في المنيِّ هل هو نجسٌ أم طاهرٌ؟ فذهب مالكٌ واللَّيثٌ والأوزاعيٌّ والثَّوْرِيَّ وأبو حنيفةَ وأصحابه إلى أنَّه نجسٌ(3)، إلَّا أنَّ مالكًا لا يُجزئ عنده في رطبه ويابسه إلَّا الغسل، والفرك عنده باطلٌ، وعند أبي حنيفةَ يغسل رطبه، ويفرك يابسه، وقال الثَّوْرِيَّ: إن لم يفركه أجزأته صلاته، وقال الشَّافعيُّ وأحمدُ وإِسْحَاقَ وأبو ثَوْرٍ: المنيُّ طاهرٌ ويفركه من ثوبه، وإن لم يفركه فلا بأس، وممَّن رأى فرك المنيِّ: سَعْدُ بنُ أبي وقَّاصٍ وابنُ عبَّاسٍ. قال ابنُ عبَّاسٍ: امسحه بإذخرٍ أو خرقةٍ، ولا تغسله إن شئت، قال الطَّحَاوِيُّ: واحتَجَّ الَّذين قالوا بنجاسته من قول(4) عَائِشَةَ: (كُنْتُ أَغْسِلُ الجَنَابَةَ مِنْ ثَوْبِ النَّبيِّ ◙ فَيَخْرُجُ إِلَى الصَّلَاةِ، وإِنَّ بُقَعَ المَاءِ في ثَوْبِهِ). واحتَجَّ الَّذين قالوا بأنَّه(5) طاهرٌ بآثارٍ عن عَائِشَةَ مُخَالِفَةٍ لهذا الحديث، وذلك ما رواه شُعْبَةُ عن الحَكَمِ عن إِبْرَاهِيْمَ عن هَمَّامٍ عن(6) الحَارِثِ أنَّه نَزَلَ على عَائِشَةَ ♦(7) فاحتلم، فرأته جاريةٌ لعَائِشَةَ وهو يغسلُ أثرَ الجنابةِ من ثوبِهِ، فأخبرت بذلك(8) عَائِشَةَ، فقَالَتْ عَائِشَةُ: ((لَقَدْ رَأَيْتُنِي مَعَ النَّبيِّ صلعم وَمَا أَزِيْدُ عَلَى أَنْ أَفْرُكَهُ في ثَوْبِ النَّبيِّ صلعم)). وروى الأوزاعيُّ عن يحيى بن سَعِيدٍ عن عَمْرَةَ عن عَائِشَةَ قالت: ((كُنْتُ أَفْرُكُ المَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللهِ صلعم إِذَا كَانَ يَابِسًا، وَأَغْسِلُهُ إِذَا كَاَن رَطْبًا)). وقال لهم أهل المقالة الأولى: لا حجَّة لكم في هذه الآثار؛ لأنَّها إنَّما جاءت في ثيابٍ ينام فيها ولم تأت في ثيابٍ يصلِّي فيها، وقد رأينا الثِّياب النَّجسة بالغائط والبول(9) لا بأس بالنَّوم فيها، ولا تجوز الصَّلاة فيها، وإنَّما تكون(10) هذه الآثار حجَّة علينا لو كنَّا نقول: لا يصلح النَّوم في الثَّوب النَّجس، فأما(11) إذا كنَّا نُبيح ذلك ونُوافق ما رويتم عن النَّبيِّ صلعم فيه ونقول من بعد: لا تصلح الصَّلاة فيها، فلم نُخالف شيئًا مما رُوِيَ عن النَّبيِّ صلعم في ذلك، وقد قالت عَائِشَةُ: ((كُنْتُ أَغْسِلُ المَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللهِ صلعم فَيَخْرُجُ إِلَى الصَّلاةِ وإِنَّ بُقَعَ المَاءِ في ثَوْبِهِ)). فكانت تغسل المنيَّ من ثوبه الَّذي يصلِّي فيه وتفركه من ثوبه الَّذي لا يصلِّي فيه. واحتَجَّ(12) عليهم الآخرون بما رواه حمَّاد بن سَلَمَةَ عن حمَّاد بن زيدٍ عن إِبْرَاهِيْمَ عن الأَسْوَدِ عن عَائِشَةَ قَالَتْ: ((كُنْتُ أَفْرُكُهُ مِنْ ثَوْبِ النَّبيِّ صلعم ثمَّ يُصَلِّي فيهِ)). قالوا: فدلَّ ذلك على طهارته. قال الطَّحَاوِيُّ: ولا يدلُّ ذلك على طهارته كما زعموا، فقد يجوز أن يفعل ذلك النَّبيُّ صلعم فيطهر(13) بذلك الثَّوب. والمنيُّ في نفسه نجسٌ كما رُوِيَ فيما أصاب النَّعلين من الأَذَى(14)، روى محمَّدُ بن عَجْلَانٍ، عن المُغِيْرَةِ عن أبي(15) هريرةَ قال: قال رَسُولُ اللهِ صلعم: ((إِذَا وَطِئَ أَحَدُكُم الأَذَى بِخُفَّيْهِ _أَوْ بِنَعْلَيْهِ(16)_ فَطَهُوْرُهُمَا التُّرَابُ))، فكان ذلك التُّراب يُجزئ من غسلهما وليس ذلك بدليلٍ(17) على طهارة الأذى في نفسه، فكذلك المَنِيِّ يطهر الثَّوب بالفرك(18)، والمَنِيُّ في نفسه نجسٌ. قال ابنُ القَصَّارِ: وأمَّا دلائل القياس: فقد اتَّفقنا على نجاسة المَذْيِ، فكذلك المَنِيِّ بعلَّة أنَّه خارجٌ من مخرج البول، فإن قالوا(19): هو طاهرٌ؛ لأنَّه خلق منه حيوانٌ طاهرٌ، قيل: قد يكون الشَّيء طاهرًا ويكون متولِّدًا عن نجسٍ كاللَّبن فإنَّه يتولَّد(20) عن الدَّم. فإن قالوا: خلق منه الأنبياء فلا يجوز أن يكون نجسًا، قيل: وكذلك خلق منه الفراعنة والطُّغاة فوجب أن يكون نجسًا، يتولَّد عن الشَّهوة يجب فيه الغسل. فإن قالوا: يُعارض قياسكم بقياسٍ آخر، فنقول(21): اتَّفقنا على محة البيضة أنَّها طاهرةٌ، فكذا(22) المَنِيِّ بعلَّة أنَّه مائعٌ خلق منه حيوانٌ طاهرٌ، قيل: هذا(23) لا يلزم؛ لأنَّا قد اتَّفقنا أنَّه يكون الشَّيء طاهرًا ويكون متولِّدًا عن نجسٍ كاللَّبن فإنَّه متولِّدٌ عن الدَّم، وقيل: إنَّه دمٌ كما يكون طاهرًا ويستحيل إلى النَّجس كالغذاء والماء في جوف ابن آدم، وقد قيل: إنَّ العلقة المتولِّدة عن المَنِيِّ من دمٍ نجسٍ. فإن قالوا: خُلق منه الأنبياء فلا يجوز أن يكون نجسًا، قيل: لو جاز أن يكون طاهرًا؛ لأنَّ الأنبياء خُلقوا منه لوجب أن يكون نجسًا؛ لأنَّ الفراعنة والطغاة خُلقوا منه(24). فإن قيل: فإنَّ الله خلق آدم من ماءٍ وطينٍ، وهما طاهران فوجب أن يكون طاهرًا، قيل: هذا لا يلزم لأنَّه لمَّا لم يُشاركه أحدٌ في ابتداء خلقه لم تجب مساواته له فيما ذكرتم؛ لأنَّ آدم لم يتنقَّل في رحمٍ فيكون نطفةً ثمَّ علقةً، والعلقة دمٌ حكم لها بالنَّجاسة إذا انفصلت، ووجدنا الخارجات من البدن على ضربين: فضربٌ مائعٌ طاهرٌ ليس خُرُوجه بحدثٍ ولا ينقض الوضوء كاللَّبن والعرق والدُّمُوع والبُصَاق والمُخَاط. وضربٌ آخر نجسٌ وخُرُوجه حدثٌ ينقض الطَّهارة ويجب غسله، كالبول والغائط ودم الحيض والمَذْيِ، وثبت بالإجماع أنَّ المَذْيَ ينقض الطُّهر ويوجبه، فكذلك المَنِيَّ.]
(25)


[1] زاد في (م): ((فرج)).
[2] في (م): ((اختلف)).
[3] صورتها في (م): ((نجستا)). في المطبوع: ((إلى أنَّ المني نجسٌ)).
[4] في (م): ((بقول)).
[5] في (م) والمطبوع: ((أنَّه)).
[6] في (م): ((بن)).
[7] قوله ((♦)) ليس في (م).
[8] قوله ((بذلك)) ليس في (م).
[9] في (م): ((بالبول والغائط والدَّم)).
[10] في (م): ((وإنَّها كانت تكون)).
[11] في (م): ((وأمَّا)).
[12] في (م): ((فاحتَجَّ)).
[13] في المطبوع: ((فيتطهَّر)).
[14] في (م): ((النَّجس)).
[15] في (م): ((روى الأوزاعيُّ عن محمَّد بن عجلان عن المقبريِّ عن أبي)).
[16] في (م): ((بخفِّه أو بنعله)).
[17] في المطبوع: ((دليل)).
[18] قوله ((بالفرك)) ليس في (م).
[19] في (م): ((قيل)).
[20] في (م): ((مُتولِّد)).
[21] في المطبوع: ((فتقول)).
[22] في المطبوع: ((فكذلك)).
[23] في المطبوع: ((ذلك)).
[24] قوله ((يتولَّد عن الشَّهوة يجب فيه الغسل. فإن قالوا: يعارض قياسكم بقياسٍ آخر، فنقول... إلى قوله... لأنَّ الفراعنة والطُّغاة خُلقوا منه.)) ليس في (م).
[25] ما بين معقوفتين ليس في (ص).