شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب استعمال فضل وضوء الناس

          ░40▒ باب اسْتِعْمَالِ فَضْلِ وَضُوءِ النَّاسِ.
          وَأَمَرَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ أَهْلَهُ أَنْ يَتَوَضَّؤوا بِفَضْلِ سِوَاكِهِ.
          فيه: أَبُو جُحَيْفَةَ: (خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلعم بِالْهَاجِرَةِ، فَأُتِيَ بِوَضُوء فَتَوَضَّأَ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَأْخُذُونَ مِنْ فَضْلِ وَضُوئِهِ فَيَتَمَسَّحُونَ بِهِ). [خ¦187]
          وَقَالَ أَبُو مُوسَى: (دَعَا النبي صلعم بِقَدَحٍ فِيهِ مَاءٌ، فَغَسَلَ يَدَيْهِ وَوَجْهَهُ وَمَجَّ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُمَا: اشْرَبَا مِنْهُ وَأَفْرِغَا على وُجُوهِكُمَا وَنُحُورِكُمَا). [خ¦188]
          وفيه: مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ: (أن النَّبيَّ(1) صلعم مَجَّ في وَجْهِهِ وَهُوَ غُلامٌ مِنْ بِئْرِهِمْ). [خ¦189]
          وفيه: الْمِسْوَر(2): (أنَّ النَّبِيَّ صلعم كَانَ إِذَا توضأ يَقْتَتِلُونَ على وَضُوئِهِ).
          وفيه: السَّائِب قَالَ(3): (ذَهَبَتْ بِي خَالَتِي إلى النبي صلعم، / فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ ابْنَ أُخْتِي وَقَعَ، فَمَسَحَ رَأْسِي وَدَعَا لي(4) بِالْبَرَكَةِ، ثُمَّ تَوَضَّأَ فَشَرِبْتُ مِنْ وَضُوئِهِ) الحديث. [خ¦190]
          قال المُهَلَّب: هذا الباب كله يقتضي طهارة فضل الوضوء، وهو الماء الذي يتطاير عن المتوضئ ويجمع بعدما غسل به أعضاء الوُضُوء، وفضل السواك هو الماء الذي ينقع فيه السواك ليرطب، وسواكهم الأراك وهو لا يغير الماء، فأراد البخاري أن يعرفك أن كل ما لا يتغير فإنه يجوز الوضوء به، والماء المستعمل غير متغير فهو طاهر، واختلف العلماء في ذلك؛ فأجاز النَّخَعِي والحسن البصري والزهري الوضوء بالماء الذي قد توضئ به، وهو قول مالك والثوري وأبي ثور، وقال محمد بن الحسن والشافعي: هو طاهر غير مُطَهِّر، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف(5): هو نجس، واحتجوا بأنه ماء الذُنوب، قال ابن القصار: فيقال لهم: هذا مَثَلٌ ضربه النبي صلعم، أي كما ينغسل(6) الدرن من الثوب كذلك تتحات الذنوب بالغسل لا أن الذنوب شيء ينماع في الماء ولا يؤثر في حكمه، ثم إننا نعلم أن الذنوب تتحاتُّ مع كل جزء منه عند أول جزء من الوجه أو اليد ثم كلما انحدر على جزء آخر هو كذلك، فينبغي أن لا يجزئه ما مر على الجُزُء الثاني لأنه ماء الذنوب.
          ونقول: إن الإجماع حاصل على جواز استعمال الماء المستعمل، وذلك أن الماء إذا لاقى أول جزء من أجزاء العضو فقد صار مستعملا، ثم يُمرُّه على كل جزء بعده فيجزئه، ولو لم يَجز الوضوء بالماء المستعمل لم يجز إمراره على باقي العضو ولوجب عليه أن يأخذ لكل جزء من العضو ماءً جديدًا، فإن قالوا: الماء المستعمل عندنا هو إذا سقط عن جميع العضو، فأما ما دام على العضو فليس بمستعمل، قيل: يلزمكم أن لا يكون مستعملًا حتى يسقط عن الأعضاء كلها؛ لأنه لا يصح أن تكون متوضئًا بغسل بعض الأعضاء وترك البعض مع القدرة لأن الأعضاء كلها كالعضو الواحد في حكم الوضوء، وقد أجمعوا أن الإنسان غير مأخوذ عليه أن يوقي ثوبه أو بدنه مما يترشش عليه من الماء المستعمل، وقد أخذ عليه أن يتحرز من ترشش البول، فلو كان نجسًا لوجب التحرز منه، فصح أنه طاهر لأنه ماء لم يتغير طعمه ولا لونه ولا ريحه(7)، ولم يؤثر الاستعمال في عينه فلم يؤثر في حكمه، وهو طاهر لاقى جسمًا طاهرًا فجاز أن يسقط به الفرض مرة أخرى كالماء الذي غسل به ثوب طاهر، فمن أين تحدث فيه نجاسة؟ وقد روي عن علي وابن عمر وأبي أمامة وعطاء ومكحول والنخعي والحسن أنهم قالوا فيمن نسي مسح رأسه فوجد في لحيته بللًا: يجزئه أن يمسحه بذلك البلل، فدل أنهم كانوا يرون استعمال الماء المستعمل، وقال غيره: يقال لمن قال إن ماء الذنوب نجس: بل هو ماء(8) طاهر مبارك لأنه الماء الذي كفَّر الله(9) بالغسل به الخطايا، وقد رفع الله ما كانت فيه هذه البركة عن النجاسة، وبالله التوفيق(10).
          قال المُهَلَّب: وفي(11) أحاديث هذا الباب دليل على(12) أن لعاب أحد من البشر ليس بنجس ولا بقية شربه، وذلك يدل أن نهيه ◙ عن النفخ في الطعام والشراب ليس على سبيل أن(13) ما تطاير فيه من اللعاب ينجسه وإنما هو خشية أن يتقذره الآكل منه، فأمر بالتأديب(14) في ذلك، وهذا التقذر الذي نهي عن النفخ من أجله مرتفع عن النبي صلعم بل كانت نخامته أطيب عند المسلمين من المسك؛ لأنهم كانوا يتدافعون عليها ويدلكون بها وجوههم لبركتها وطيبها، وأنها مخالفة(15) لخلوف أفواه البشر وذلك لمناجاته الملائكة، فطيب الله لهم نكهته وخلوف فيه(16) وجميع رائحته، وفي قصة محمود ممازحة الطفل بما يصعب عليه لأن مج الماء قد يصعب عليه وإن كان قد يستلذه(17)، وحديث أبي موسى يحتمل أن يكون أمر النبي صلعم(18) بالشرب من وضوئه الذي مج فيه وأن يفرغا منه على نحورهما ووجوههما من أجل مرض أو شيء أصابهما، وهو حديث مختصر لم يُذكر فيه اللذان(19) أمرهما بذلك، وفي حديث السائب بركة الاسترقاء، وقوله في حديث السائب: (إِنَّ(20) ابْنَ أُخْتِي وَقَعَ) فمعناه أنه وقع في المرض، وإن كان روي(21) بكسر القاف، وأهل اللغة يقولون: وقِع الرجل إذا اشتكى لحم قدمه، قال الراجز:
كلَّ الحِذَاءِ يَحْتَذِي الحَافِي الوَقِـعْ
          والمعروف(22) عندنا وقع بفتح القاف والعين. /


[1] في (ص): ((الرسول)).
[2] قوله ((المسور)) ليس في (م).
[3] قوله ((قال)) ليس في (م).
[4] في (ص): ((رأسه ودعا له)).
[5] قوله: ((وأبو يوسف)) ليس في (ص).
[6] في (ص): ((يغسل)).
[7] في (م): ((لم يتغير لونه ولا ريحه ولا طعمه)).
[8] قوله: ((ماء)) ليس في (ص).
[9] في (ص): ((الذي رفع الله)).
[10] قوله ((وبالله التوفيق)) ليس في (م).
[11] في (ص): ((ففي)).
[12] قوله ((على)) ليس في (م).
[13] في (ص): ((ليس بأن)).
[14] في (م): ((بالتأدب)).
[15] في (م): ((لمخالفة)).
[16] في (م): ((فمه)).
[17] في (م): ((يستلذ)).
[18] قوله: ((صلعم)) ليس في (ص).
[19] في (م): ((الذين)).
[20] في (م): ((وقوله فيه: إن)).
[21] زاد في(م) و (ص): ((وقع)).
[22] في (م): ((والرواية)).