شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب لا يجوز الوضوء بالنبيذ ولا المسكر

          ░71▒ بَابُ: لا يَجُوزُ الوُضُوءُ بِالنَّبِيْذِ وَلا المُسْكِرِ.
          وَكَرِهَهُ الحَسَنُ وَأَبُو العَالِيَةِ.
          وَقَالَ عَطَاءٌ: التَّيَمُّمُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الوُضُوءِ بِالنَّبِيذِ وَاللَّبَنِ(1).
          فيهِ: عَائِشَةُ، قَالَ النَّبيُّ صلعم(2): (كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ). [خ¦242]
          اختلف العلماء في الوضوء بالنَّبيذ: فقال مالكٌ وأبو يُوسُفَ والشَّافعيُّ وأحمدُ(3): لا يجوز الوضوء بالنَّبيذ، نَيِّهِ ومَطْبُوخِهِ، مع عدم الماء ووجوده، تمرًا(4) كان أو غيره، فإن كان مع ذلك مشتدًّا فهو نجسٌ لا يجوز شربه ولا الوضوء به(5). وأجاز الحَسَنُ الوضوء بالنَّبيذ، قال(6) الأوزاعيَّ: يجوز الوضوء بسائر الأنبذة، ورُوِيَ هذا عن عَلَيٍّ ☺، قال(7) أبو حنيفةَ: لا يجوز الوضوء به مع وجود الماء، فإذا عُدم فيجوز بمطبوخ التَّمر خاصَّةً إذا أسكر، فأمَّا النَّيِّئ والنَّقيع فلا يجوز الوضوء به، وقال محمَّدُ بنُ الحَسَنِ: يتوضَّأ به ثمَّ يتيمَّم. قال الطَّحَاوِيُّ: واحتَجَّ الَّذين أجازوا الوضوء بالنَّبيذ بما رواه ابنُ لَهِيْعَةَ عن قَيْسِ بن الحَجَّاجِ عن(8) حَنَشٍ الصَّنْعَانِيِّ عن ابن عبَّاسٍ: ((أَنَّ ابنَ مَسْعُودٍ خَرَجَ لَيْلَةَ الجِنِّ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلعم، فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللهِ صلعم: أَمَعَكَ مَاءٌ؟ قَالَ: مَعِي نَبِيْذٌ في إِدَاوَتِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: أُصْبُبْ عَلَيَّ، فَتَوَضَّأَ بِهِ وَقَاَل(9): شَرَابٌ وَطَهُوْرٌ)). وبما رواه حمَّادُ بنُ سَلَمَةَ عن عليِّ بنِ زيد بن جَدْعَانَ عن أبي رافعٍ مولى ابنِ(10) عُمَرَ، عن ابن مَسْعُوْدٍ: ((أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولُ اللهِ لَيْلَةَ الجِنِّ(11)، وَأَنَّه احتَاجَ ◙ إِلَى مَاءٍ يَتَوَضَّأُ بِهِ، وَلَمْ يَكَنْ مَعَهُ إِلَّا النَّبِيْذُ، فَقَالَ: تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُوْرٌ، وَتَوَضَّأَ بِهِ))، واحتَجَّ عليهم مخالفوهم بأنَّ هذه الآثار لا تثبتْ، ولا تقوم بها حجَّةٌ. قال الطَّحَاوِيُّ: وقد رُوِيَ عن ابن مَسْعُوْدٍ مِن الطُّرق الثَّابتة أنَّه لم يشهد ليلة الجنِّ مع النَّبيِّ صلعم، حدَّثنا ربيعٌ(12) المُؤَذِّنُ، حدَّثنا أَسَدٌ، حدَّثنا يحيى بنُ أبي(13) زكريَّا، حدَّثنا(14) ابنُ أبي زائدةَ، حدَّثنا داودُ بنُ أبي هِنْدٍ، عن عامرٍ، عن عَلْقَمَةَ قال: سألت ابن مَسْعُودٍ: هلْ كانَ مَعَ النَّبيِّ صلعم ليلةَ الجنِّ أحدٌ؟ فقالَ: لمْ يصحبْهُ منَّا أحدٌ، ولَكِنْ فَقَدْنَاهُ تِلْكَ اللَّيْلَةِ، فقلْنَا استُطِيْرَ أَوِ اغتِيْلَ، فتَفَرَّقْنَا في الشِّعَابِ والأَوْدِيَةِ نَلْتَمِسُهُ، فَقَالَ: ((إِنِّي(15) أَتَانِي دَاعِي الجِنِّ فَذَهَبْتُ أُقْرِئُهُم القُرْآنَ)) فأرانا آثارهم، وهذا الإسناد أَصَحُّ مِن آثارهم. وأمَّا من طريق النَّظَّر فإنَّا رأينا الأصل المتَّفق عليه أنَّه لا يتوضَّأ بنبيذ الزَّبيب ولا الخلِّ، وكان(16) النَّظر على ذلك أن يكون نبيذ التَّمر كذلك. و(17) أجمع العلماء أنَّ نبيذ التَّمر إذا كان موجودًا مع(18) الماء أنَّه لا يتوضَّأ به؛ لأنَّه ليس بماءٍ، فلمَّا كان خارجًا مِن حكم المياه في حال وجود الماء كان خارجًا مِن حكم المياه في حال عدم الماء. ووجه احتجاج البخاريُّ ☼ في هذا الباب بقوله صلعم(19): ((كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ)): هو(20) أنَّه إذا أسكر الشَّراب فقد وجب اجتنابه لنجاسته، وحرُم استعماله في كلِّ حالٍ، ولم يحلَّ شربه، وما لم يحلَّ شربه(21) لا يجوز الوضوء به لخُرُوجه عن اسم الماء في اللَّغة والشَّريعة، وكذلك النَّبيذ غير(22) المسكر أيضًا هو(23) في معنى المسكر مِن جهة أنَّه لا يقع عليه اسم الماء، ولو جاز أن يُسَمَّى النَّبيذُ ماءً لأنَّ فيه ماءً، جاز أن يُسَمَّى الخلُّ ماءً لأنَّ فيه ماءً. وهذا أبو عُبَيْدٍ وهو إمامٌ في اللُّغة يقول: النَّبيذ لا يكون طهورًا أبدًا؛ لأنَّ الله تعالى شرط الطُّهور بشرطين ولم يجعل لهما ثالثًا / وهما: الماء، والصعيد، والنَّبيذ ليس بواحد منهما. قال ابن المُنْذِرِ: وما رواه(24) عن عليٍّ فليس بثابتٍ عنه. قال ابنُ القَصَّارِ: ولو صَحَّ خبرهم لكان منسوخًا؛ لأنَّ ليلة الجنِّ كانت بمكَّة في صدر الإسلام، وقوله ╡: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً}[النِّساء:43]نزلتْ في غزوة المُرَيْسِيْعِ حيث فقدتْ عَائِشَةُ عقدها(25) بالمدينة.


[1] قوله: ((واللَّبن)) ليس في (م).
[2] في (ص): ((قال ◙)).
[3] زاد في (م): ((وجماعة)).
[4] في (م): ((تمريًا)).
[5] قوله: ((به)) ليس في (ص).
[6] في (م): ((وقال)).
[7] في (م): ((وقال)).
[8] في (م): ((بن)).
[9] في (م): ((قال)).
[10] في (م): ((آل)).
[11] قوله: ((ليلة الجنِّ)) ليس في (م).
[12] صورتها في (ز): ((بيع)).
[13] قوله: ((أبي)) ليس في (م) والمطبوع و(ص).
[14] قوله: ((حدَّثنا)) ليس في (م).
[15] في (م): ((إنَّه)).
[16] في (م): ((فكان)).
[17] زاد في (م): ((قد)).
[18] في (م): ((معه)).
[19] في (ص): ((ووجه احتجاج البخاري بقوله ◙)).
[20] في (م): ((فهو)).
[21] قوله: ((وما لم يحلَّ شربه)) ليس في (م).
[22] في (م): ((من)).
[23] في المطبوع و(ص): ((فهو)).
[24] في (م): ((رووه)).
[25] صورتها في (م): ((عندها)).