شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الوضوء بالمد

          ░47▒ باب الْوُضُوءِ بِالْمُدِّ. /
          فيه: أَنَس: (كَانَ رسول الله صلعم(1) يَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ إلى خَمْسَةِ أَمْدَادٍ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ). [خ¦201]
          قال أبو عبيد: اختلف أهل العراق وأهل الحجاز في مبلغ المد والصاع كم هو؟ فذهب أهل العراق إلى أن الصاع ثمانية أرطال والْمُدّ رطلان، واحتجوا بما رواه سهل بن عبد الله بن عيسى عن عبد الله بن حميد عن أنس بن مالك قال: ((كان رسول الله صلعم يتوضأ برطلين ويغتسل بالصاع)) قالوا: فإذا ثبت أن الْمُدَّ رطلان ثبت أن الصاع ثمانية أرطال، وذهب أهل المدينة إلى أن الْمُدَّ ربع الصاع، وهو رطل وثلث، والصاع خمسة أرطال وثلث، وهو قول أبي يوسف وإليه رجع حين ناظره مالك في زنة الْمُدّ وأتاه بِمُدِّ أبناء المهاجرين والأنصار وراثةً عن النبي صلعم بالمدينة، وهو قول إسحاق بن راهويه، وحديث أنس لا حجة لأهل العراق فيه لأنه قد روي بخلاف ما ذكروه، رواه شعبة عن عبد الله بن عبد الله بن جبير(2) أنه سمع أنس بن مالك يقول: ((كان رسول الله صلعم(3) يتوضأ بالمكوك ويغتسل بخمسة مكاكي)) وهذا بخلاف ما رواه عن أنس، والمكوك عندهم نصف رطل إلى ثماني أواقي.
          واختلفوا هل يجزئ الوضوء بأقل من المد والغسل بأقل من الصاع؟ فقال قوم: لا يجزئ أقل من ذلك لورود الخبر به، هذا قول الثوري والكوفيين، وقال آخرون: ليس المد والصاع في ذلك بحتم، وإنما ذلك إخبار عن القدر الذي كان يكفيه صلعم لا أنه حد لا يجزئ دونه، وإنما قصد به التنبيه على فضيلة الاقتصاد وترك السرف، والمستحب(4) لمن يقدر على الإسباغ بالقليل أن يقلل ولا يزيد على ذلك لأن السرف ممنوع في الشريعة، وقد روي عنه صلعم أنه قال: ((سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء)) وإلى هذا ذهب مالك وطائفة من السلف، وهو قول الشافعي وإسحاق، وقال سعيد بن المسيب: إن لي ركوة _أو قدحًا_ يسع نصف المد أو نحوه وأنا أتوضأ منه وربما فضَل فضلٌ، وعن سليمان بن يسار مثله، وتوضأ القاسم بن محمد بقدر نصف المد وزيادة قليل، وقيل لأحمد بن حنبل: إن الناس في الأسفار ربما ضاق عليهم الماء أفيجزئ الرجل أن يتوضأ بأقل من المد؟ فقال: إذا أحسن أن يتوضأ به وغسل فلم(5) يمسح فيجزئه(6)، وقال ابن أبي زيد: القليل من الماء مع إحكام الوضوء سنة، والإسراف فيه غلو وبدعة، وهذا كله رد على الإباضية ومن رأى أن قليل الماء لا يجزئ، والسنة حجة على من خالفها.


[1] في (م): ((كان النبي صلعم))، وفي (ص): ((كان ◙)).
[2] قوله ((رواه شعبة عن عبد الله بن جبير)) ليس في (م).
[3] قوله: ((صلعم)) ليس في (ص).
[4] في (م): ((فالمستحب)).
[5] في (م): ((ولم)).
[6] في المطبوع: ((يجزئه)).