شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب لا يتوضأ من الشك حتى يستيقن

          ░4▒ باب لا يَتَوَضَّأُ مِنَ الشَّكِّ حَتَّى يَسْتَيْقِنَ.
          فيه: عَبَّادُ بْنُ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ عبد الله بنِ زيد: أَنَّهُ شَكَا إلى رَسُولِ اللهِ صلعم الرَّجُلَ الذي يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيْءَ في صلاته(1) فَقَالَ: (لا تَنْفَتِلْ _أَوْ لا تَنْصَرِفْ_ حَتَّى تَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ تَجِدَ رِيحًا(2)). [خ¦137]
          على هذا(3) جماعةٌ من العلماء أنَّ الشك لا يُزيل اليقين ولا حكم له وأنه مُلْغًى مع اليقين، وقد اختلفوا في ذلك، فروى ابن القاسم عن مالك أن من شك في الحدث بعد تيقن الطهارة فعليه الوضوء، وروى عنه ابن وهب أنه قال: أحبُّ إليَّ أن يتوضأ، وروى ابن نافع عن مالك أنه لا وضوء عليه، وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي والشافعي: يبني على يقينه هو على وضوء(4) بيقين، قالوا: وكذلك يبني على الأصل حدثًا كان أو طهارة، وحجتهم قوله ◙: (لا تَنْصَرِفْ حَتَّى تَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ تَجِدَ رِيحًا) ولم يفرق بين أول مرة أو بين ما يعتاده من ذلك، قالوا: والأصول مبنية على اليقين كقوله ◙: ((إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر أصلى ثلاثًا أو أربعًا فَلْيَبْنِ على يقينه)) وكذلك لو شك هل طلق أم لا لم يلزمه الطلاق لأنه على يقين نكاحه، وهكذا لو شك هل أصاب ثوبه أو بدنه نجاسة أم لا فإنه يبني على يقين طهارته، والحجة لرواية ابن القاسم عن مالك أنه قال: تعبدنا(5) بأداء الصلاة بيقين الطهارة فإذا(6) طرأ الشك عليها فقد أبطلها كالمتطهر إذا نام مضطجعًا، فإن الطهارة واجبة عليه بإجماع وليس النوم في نفسه حدثًا وإنما هو من أسباب الحدث الذي ربما كان وربما لم يكن، وكذلك(7) إذا شك في الحدث فقد زال عنه يقين الطهارة.
          وقال المُهَلَّب: لا حجة للكوفيين في حديث عبد الله بن زيد هذا لأن الحديث إنما ورد في المستنكَح الذي يشك في الحدث / كثيرًا، ومن استنكحه ذلك فلا وضوء عليه عند مالك وغيره، والدليل على ذلك قوله فيه: (شَكَا إلى رَسُولِ اللهِ صلعم) والشكوى لا تكون إلا من علة، ويؤيد هذا قوله: إنه(8) يخيل إليَّ لأن التخييل لا يكون حقيقة وقد بين ذلك حماد بن سلمة في حديث(9) عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلعم قال: ((إذا كان أحدكم في الصلاة فوجد حركة في دبره فأَشكل عليه فلا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا)) قال أحمد بن خالد: هذا حديث جيد ذكر القصة كيف هي، إنما هي في الشك لأن غيره اختصره فقال: لا وضوء إلا أن يسمع صوتًا أو يجد ريحًا، وإنما هذا إذا شك وهو في الصلاة كما قال هاهنا لأنه من الشيطان، ومما يدل على ذلك أيضًا ما رواه حماد بن سلمة(10) عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلعم قال: ((إن الشيطان يأتي أحدكم في صلاته، فيأخذ شعرة من دبره فيُرى أنه قد أحدث، فلا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا)).
          وقد قال بعض أهل العلم: إن قوله ◙ ((فلا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا)) معارِض لقوله(11)◙: ((من شك في صلاته فلم يدر أصلى ثلاثًا أم أربعًا فليأت بركعة)) لأنه حين أمره أن لا ينصرف من صلاته حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا فقد أمره بالحكم لليقين وإلغاء الشك، وفي حديث الشك في الصلاة أمره بالحكم(12) للشك وإلغاء اليقين حين أمره بالإتيان بركعة، وليس كما ظنه بل الحديثان متفقان في إلغاء الشك والحكم لليقين، وذلك أنه أمر الذي يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة أن لا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا لأنه كان على يقين من الوضوء فأمره ◙ باطِّراح الشك وأن لا يترك يقينه إلا بيقين آخر، وهو سماع الصوت أو وجود الريح، والذي يشك(13) في صلاته فلا يدري أثلاثًا صلى أو أربعًا(14) لم يكن على يقين من الركعة الرابعة كما كان في الحديث الآخر على يقين من الوضوء بل كان على يقين من ثلاث ركعات شاكًّا في الرابعة، فوجب أن يترك شكه في الرابعة ويرجع إلى يقين من الإتيان بها، فصار حديث الشك في الصلاة مطابقًا لحديث الشك في الحدث مشبهًا له في أن اليقين يقدح في الشك ولا يقدح الشك في اليقين، والحمد لله(15).


[1] في (م): ((الصلاة)).
[2] في (م): ((فقال لا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا)).
[3] زاد في (م): ((الرسم)).
[4] في (م): ((وضوئه)).
[5] في (م): ((عن مالك إنا قد تعبدنا))، وفي (ص): ((قد تعبدنا)).
[6] في (م) و (ص): ((وإذا)).
[7] في (م): ((فكذلك)).
[8] قوله ((إنه)) ليس في (م).
[9] في (م) و (ص): ((حديثه)).
[10] قوله ((ابن سلمة)) ليس في (م).
[11] في (م): ((يعارض قوله)).
[12] قوله: ((بالحكم)) ليس في (ص).
[13] في (م): ((شك)).
[14] في (م): ((أصلى ثلاثًا أم أربعًا)).
[15] قوله ((الحمد لله)) ليس في (م).