شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب غسل الرجلين ولا يمسح على القدمين

          ░27▒ باب غَسْل الرِّجْلَيْنِ، وَلا يَمْسَحُ(1) على الْقَدَمَيْنِ.
          فيه: ‏عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: (تَخَلَّفَ النبي صلعم عَنَّا في(2) سَفْرَةٍ، فَأَدْرَكَنَا وَقَدْ أَرْهَقَنَا الْعَصْرُ، فَجَعَلْنَا نَتَوَضَّأُ وَنَمْسَحُ على أَرْجُلِنَا، فَنَادَى بِأَعلى صَوْتِهِ: وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا). [خ¦163]
          هذا الحديث تفسير لقوله ╡(3): {وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إلى الْكَعْبَينِ}[المائدة:6]والمراد منه غسل الأرجل لا مسحها، قال الطحاوي: وقد ذهب قوم من السلف إلى خلاف هذا وقالوا: الفرض في الرجلين هو المسح لا الغسل وقرؤوا: {وَأَرْجُلِكُمْ} بالخفض، روي ذلك عن الحسن البصري ومجاهد وعكرمة والشَّعبي، وقال الشَّعبي: نزل القرآن بالمسح والسنةُ الغسل، واحتجوا من طريق النظر بالتيمم فقالوا: لما كان حكمُ الوجه واليدين في الوضوء الغسلَ وحكمُ الرأس المسحَ بإجماع، كان التيمم على الوجه واليدين المغسولين(4) وسقط عن الرأس الممسوح، كان حكم الرجلين بحكم الرأس أشبهَ إذ سقط التيمم عنهما كما سقط عن الرأس.
          وقال(5) آخرون: {أَرْجُلَكُمْ} بالنصب وقالوا: عاد إلى الغَسل، وروي(6) ذلك عن ابن مسعود وابن عباس، والتقدير: اغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين، وامسحوا برؤوسكم، قال غيره: والقراءتان صحيحتانِ، ومعلومٌ أن الغسل مخالف للمسح وغير جائز أن تَبطُل إحدى القراءتين بالأخرى، فلم يبق إلا أن يكون المعنى الغسل، وقد وجدنا العرب تخفض بالجوار وإِتْبَاعِ اللفظ والمراد عندهم المعنى كما قال امرؤ القيس:
كَبِيْـرُ أناس في بِـجَادٍ مُـزَمـَّلِ
          فخفضَ بالجوار، والمزمَّلُ الرجلُ وإعرابُهُ الرفعُ، ومثله كثير، وقد تقول العرب: تمسحت للصلاة، والمراد الغسل، وروى أشهب عن مالك أنه سُئل عن قراءة من قرأ: {وَأَرْجُلِكُمْ} بالخفض فقال: هو الغسل، قال الطحاوي: وإلى هذا ذهب أكثر أهل العلم وهو قول مالك والثوري وأبي حنيفة وأصحابه والشافعي وغيرهم، واحتجوا بحديث هذا الباب وقالوا: لما توعَّدهم النبي صلعم على مسح أرجلهم عُلِمَ أن الوعيد لا يكون إلا في ترك مفروض عليهم، وأن المسح الذي كانوا يفعلونه لو كان هو المراد بالآية على ما قال الشَّعبي لكان منسوخًا بقوله: (ويل للأعقاب من النار) ويدل على صحة(7) هذا أن كل من روى عن النبي(8) صلعم صفة الوضوء روى أنه غسل رجليه لا أنه مسحهما، وقد روي عنه صلعم ما يدل على أن حكمهما الغسل، روى مالك عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلعم قال: ((إذا توضأ العبد المسلم فغسل وجهه خرجت من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينه، فإذا غسل يديه خرجت من يديه كل خطيئة بطشتها يداه، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها(9) رجلاه)) فهذا يدل على أن الرجلين فرضهما الغسل لأن فرضهما لو كان المسح لم يكن في غسلهما ثواب، ألا ترى أن الرأس الذي فرضه المسح لا ثواب في غسله، والحجة على من قال بالمسح _ما(10) أدخلوه من طريق النظر_ أن يقال لهم: إنا رأينا أشياء يكون(11) فرضها الغسل في حال وجود الماء ثم يسقط ذلك الفرض في حال عدم الماء لا إلى فرض، من ذلك الجنب عليه أن يغسل سائر جسده(12) بالماء، فإذا عَدِمَ الماء وجب عليه التيمم في وجهه ويديه وسقط حكم سائر بدنه بعد الوجه واليدين لا إلى بدل، فلم يدل ذلك أن ما سقط فرضه كان فرضه في حال وجود الماء المسحَ فبطلت علة المخالف إذ كان قد لزمه في قوله مثل ما لزم خصمه، وهذه معارضة صحيحة / قاله(13) الطحاوي.


[1] في (ص): ((ولا مسح)).
[2] في (م): ((تخلف عنا رسول الله صلعم في)).
[3] قوله: ((╡)) ليس في (ص).
[4] في (م): ((المغسولتين)).
[5] في (م): ((وقرأ)).
[6] في (م): ((روي)).
[7] قوله ((صحة)) ليس في (م).
[8] في (ص): ((الرسول)).
[9] في (ص): ((بطشتها)).
[10] في (ص): ((فيما)).
[11] قوله: ((يكون)) ليس في (ص).
[12] في (م): ((بدنه)).
[13] في (م): ((قالها)).