شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب غسل الدم

          ░63▒ بَابُ: غَسْلِ الدَّمِ.
          فيهِ: أَسْمَاءُ قَالَتْ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبيِّ صلعم فَقَالَتْ: أَرَأَيْتَ إِحْدَانَا تَحِيْضُ في الثَّوْبِ، كَيْفَ تَصْنَعُ؟ قَالَ: (تَحُتُّهُ ثمَّ تَقْرُضُهُ(1) بِالمَاءِ وتَنْضَحُهُ وَتُصَلِّي فِيهِ(2)). [خ¦227]
          وفيهِ: عَائِشَةُ، قَالَتْ: جَاءَتْ فَاطِمَةُ ابنةُ(3) أبي حُبَيْشٍ إِلَى النَّبيِّ صلعم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ، فَلا أَطْهُرُ، أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: (لَا، إِنَّمَا ذَلِكِ عِرْقٌ وَلَيْسَ بِحَيْضٍ(4)) إلى قوله: (فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّم وَصَلِّي). [خ¦228]
          حديث أسماء أصلٌ عند العلماء في غسل النَّجاسات مِن الثِّياب.
          وقوله: (تَحُتُّهُ) يعني تفركُه(5) وتنفضه، قال أبو عُبَيْدٍ: وقوله: (تَقْرُضُهُ) يعني تقطِّعه بالماء، وكلُّ مقطَّع مُقَرَّضٌ(6)، يُقال منه: قَرَّضْتُ(7) العجين إذا قَطَّعْتُه، وقال غيره: والنَّضْحُ في هذا الحديث يُراد به الغسل. وذلك معروفٌ في لغة العرب على ما تقدَّم بيانه في بابِ بولِ الصِّبيَان [خ¦223]، والدَّليل على أنَّ النَّضح فيه يُراد به(8) الغسل قوله صلعم لفَاطِمَةَ بنتِ أبي حُبَيْشٍ: (فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّم وَصَلِّي)، وهذا الحديث محمولٌ عند العلماء على الدَّم الكثير؛ لأنَّ الله تعالى شرط في نجاسته أن يكون مسفوحًا، وكنَّى به عن الكثير الجاري، إلَّا أنَّ الفقهاء اختلفوا في مقدار ما يُتجاوز عنه من الدَّم، فاعتبر الكوفيُّون فيه وفي سائر النَّجاسات: دون الدَّرهم في الفرق بين قليله وكثيره(9) قياسًا على دور المخرج في الاستنجاء بالحجارة. وقال مالكٌ: قليل الدَّم معفوٌ عنه ويغسل قليل سائر النَّجاسات، وروى عنه ابن وَهْبٍ أنَّ قليل دم الحيض يُغسل ككثيره كسائر الأنجاس بخلاف سائر الدِّماء، وقال أَشْهَبٌ: لم يحدَّ مالكٌ في الدَّم قدر الدِّرهم، وقال عليُّ بن زيادٍ عنه: إنَّ قدر الدِّرهم ليس بواجبٍ أن تُعاد منه الصَّلاة، ولكن الكثير الفاشي. وعند الشَّافعيِّ: أنَّ يسير الدَّم يُغسل كسائر النَّجاسات إلَّا دم البَرَاغِيْثِ فإنَّه لا يمكن التَّحرُّز منه. والحجَّة لقول مالكٍ(10): أنَّ يسير دم الحيض ككثيره قوله صلعم لأسماء في دم الحيض: ((حُتِّيْهِ ثمَّ اقْرُصِيْهِ بالمَاءِ))، ولم يُفَرِّق بين قليله وكثيره(11)، ولا سألها عن مقداره(12)، وقوله لفَاطِمَةَ بنتِ أبي حُبَيْشٍ: ((فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّم وَصَلِّي))، ولم يحدَّ فيه مقدار درهمٍ من غيره. ووجه الرِّواية الأخرى: أنَّ قليل الدَّم معفوٌ عنه هو أنَّ يسير الدَّم موضع ضرورةٍ؛ لأنَّ الإنسان لا يخلو في غالب حاله من بَثْرَةٍ أو دُمَّل أو بُرْغُوثٍ أو ذُبَابٍ، فعُفي عن القليل منه، ولهذا حرَّم الله [تعالى / المسفوح منه، فدلَّ أنَّ غيره ليس بمحرَّم، ولم يستثن في سائر النَّجاسات غير الدَّم أن تكون مسفوحةً. وقالت عَائِشَةُ: لو حرَّم الله قليل(13) الدَّم لتتبَّع النَّاس ما في العروق، ولقد كنَّا نطبخ اللَّحم والبُرْمَةُ تعلوها الصُّفرة. وليس الغالب من النَّاس كون الغائط والبول في ثيابهم وأبدانهم؛ لأنَّ التَّحَرُّز يمكن منه(14)، وقال مجاهدٌ: كان أبو هريرةَ لا يرى بالقطرة والقطرتين بأسًا في الصَّلاة، وتنخَّم ابن أبي أَوْفَى دمًا في صلاته. وعصر ابنُ عُمَرَ بَثْرَةً فخرج منها دمٌ وقيحٌ(15) فمسحه بيده وصلَّى ولم يتوضَّأ. وروى ابنُ المباركٍ عن المباركِ بن فَضَالَةَ عن الحَسَنِ: ((أَنَّ النَّبيَّ صلعم كَانَ يَقْتُلُ القَمْلَةَ(16) في الصَّلَاةِ)). ومعلومٌ أنَّ فيها دمًا يسيرًا.](17)


[1] في المطبوع و(م): ((تقرصه)).
[2] في المطبوع و(ص): ((تَحُتُّهُ وَتَقْرُصُهُ ثمَّ تَنْضَحُهُ بالمَاءِ وَتُصَلِّي فِيهِ)).
[3] في المطبوع و(ص): ((بنت)).
[4] في (ص): ((بالحيض)).
[5] في المطبوع و(ص): ((تقرصه)).
[6] في المطبوع: ((مُقَرَّص)).
[7] في المطبوع: ((قرَّصت)).
[8] قوله ((به)) ليس في (م).
[9] في (م): ((كثيره وقليله)).
[10] في (م): ((والحجَّة لمالكٍ)).
[11] في (م): ((كثيره وقليله)).
[12] في (م): ((هذا)).
[13] في (م): ((لو حرم قليل)).
[14] في (م): ((ممكن فيه)).
[15] في (م): ((قيح ودم)).
[16] في (م): ((القمل)).
[17] ما بين معقوفتين ليس في (ص).