شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب من لم يتوضأ من لحم الشاة والسويق

          ░50▒ بَابُ: مَنْ لَمْ يَتَوَضَّأْ مِنْ لَحْمِ الشَّاةِ وَالسَّوِيقِ.
          وَأَكَلَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ لَحمًا، وَلَمْ يَتَوَضَّؤُوا.
          فيهِ: ابنُ عَبَّاسٍ: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ أَكَلَ كَتِفَ شَاةٍ، ثمَّ صَلَّى، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ). [خ¦207]
          ورواه عَمْرُو بنُ أُمَيَّةَ عن النَّبيِّ صلعم. واختلف(1) السَّلف قديمًا في هذه المسألة، فذهب قومٌ إلى إيجاب الوضوء من أكل ما غيَّرت النَّار وهم: عَائِشَةُ وأمُّ حَبِيْبَةَ زَوْجَا النَّبيِّ صلعم، وأبو هريرةَ وزَيْدُ بنُ ثَابِتٍ وأبو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ، واختُلِفَ في ذلك عن ابنِ عُمَرَ، وأبي طلحةَ وأَنَسٍ، وبه قال خَارِجَةُ بنُ زَيْدٍ، وأبو بَكْرٍ بنُ عبدِ الرَّحمنِ وابنُ المُنْكَدِرِ وابنُ شِهَابٍ وعُمَرُ بنُ عبدِ العزيزِ، وهؤلاء كلُّهم مدنيُّون، وقال به(2) أهل العراق: أبو قِلَابَةَ والحَسَنُ البصريُّ وأبو مِجْلَزٍ، وذهبوا في ذلك إلى ما روى ابنُ أبي ذِئْبٍ عن الزُّهْرِيِّ عن عبدِ الملكِ بن أبي بَكْرٍ عن خَارِجَةَ بنِ زَيْدِ بنِ ثابتٍ عن أبيه قال: قال رَسُولُ اللهِ: ((تَوَضَّؤُوا مِمَّا غَيَّرَتِ النَّارُ))، وبما رواه ابنُ شِهَابٍ عن سَعِيدِ بنِ خَالِدٍ بنِ عَمْرِو بنِ عُثْمَانَ أنَّه سَأَلَ عُرْوَةَ عن ذلك فقال: سَمِعْتُ عَائِشَةَ تقولُ: قالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: ((تَوَضَّؤُوا مِمَّا غَيَّرِتِ النَّارِ)). وقال(3) آخرون: لا(4) يُتَوَضَّأُ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ، وممَّن قال بذلك(5): أبو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وعُمَرُ بنُ الخَطَّابِ(6) وعُثْمَانُ بنُ عَفَّانٍ وعَلِيُّ بنُ أبي طَالِبٍ وابنُ مَسْعُودٍ وابنُ عَبَّاسٍ وأبو أُمَامَةَ وأُبَيُّ بنُ كَعْبٍ وأبو الدَّرْدَاءِ، وهو قول مالكٍ والثَّوْرِيِّ في أهل الكوفة، والأوزاعيِّ في أهل الشَّام، والشَّافعيِّ وأحمدَ وإِسْحَاقَ(7) وأبي ثَوْرٍ، واحتَجُّوا بحديث هذا الباب: (أَنَّ النَّبيَّ ◙ أَكَلَ كَتِفَ شَاةٍ، ثمَّ صَلَّى، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ)، وقالوا: هذا كان آخر(8) الأمرين من رَسُولِ اللهِ صلعم. قال الطَّحَاوِيُّ: والدَّليل على ذلك ما حدَّثنا أبو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ، حدَّثنا عليُّ بنُ عيَّاشٍ، حدَّثنا سَعِيدُ(9) بنُ أبي حَمْزَةَ، عن مُحَمَّدِ بنِ المُنْكَدِرِ، عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ قالَ: ((كَانَ آخِرُ الأَمْرِيْنِ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلعم تَرْكَ الوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتِ النَّاُر))، وحدَّثنا ابن خُزَيْمَةَ، حدَّثنا حَجَاجٌ، حدَّثنا عبدُ العزيزِ بنِ مسلمٍ، عن سُهَيْلِ بنِ أبي صالحٍ، عن أبيه، عن أبي هريرةَ: ((أنَّ النَّبيَّ صلعم أَكَلَ ثَوْرَ أَقِطٍ يَوْمًا فَتَوَضَّأ(10)، ثمَّ أَكَلَ(11) كَتِفًا فَصَلَّى ولمْ يَتَوَضَّأْ)). فثَبَتَ أنَّ آخر الأمرين منه صلعم ترك الوضوء ممَّا غيَّرت النَّار وأنَّه ناسخٌ لما قبله. وقال حمَّادُ بنُ زيدِ: سمعت خالدًا الحذَّاءَ يقول: كانوا يرون أنَّ النَّاسخ مِن حديث رَسُولِ اللهِ صلعم مَا كان عليه أبو بَكْرٍ وعُمَرُ. وقال(12) حمَّاد: سمعت أيُّوبَ، قُلُتْ(13) لعُثْمَانَ البَتِّيِّ: إذا سمعت أبدًا اختلافًا عن النَّبيِّ صلعم فانظر ما كان عليه أبو بَكْرٍ وعُمَرُ فشُدَّ عليه يدك، وروى محمَّدُ بن الحَسَنِ، عن مالكٍ، قال: إذا جاء عن النَّبيِّ صلعم حديثان مختلفان وبلغنا أنَّ أبا بَكْرٍ وعُمَرَ عملا بأحد الحديثين وتركا الآخر، كان في ذلك دلالةٌ على أنَّ الحقَّ فيما(14) عملا به. وقال الأوزاعيُّ: كان مَكْحُوْلٌ يتوضَّأ مما مسَّت النَّار، فلقي عَطَاءَ بنَ أبي رَبَاحٍ فأخبره أنَّ أبا بَكْرٍ الصَّدِّيق أكل كتفًا ثمَّ صلَّى ولم يتوضَّأ، فترك مَكْحُوْلٌ الوضوء فقيل له: تركت الوضوء؟ فقال: لأنْ يقع أبو بَكْرٍ من السَّماء إلى الأرض أحبُّ إليه(15) مِن أن يُخالف رَسُولَ اللهِ صلعم. وقد ذهب قومٌ ممَّن تكلَّم في غريب الحديث إلى أنَّ قوله ◙: (تَوَضَّؤُوا مِمَّا غَيَّرِتِ النَّارُ) أنَّه عنى به غسل اليد، وهذا لا معنى له، ولو كان كما ظنَّ لكان دسم ما لم تغيِّره النَّار وغَمَرُهُ(16) لا(17) تغسل منه اليد، وهذا يدلُّ على قلِّة علمه بما جاء عن السَّلف / في ذلك مِن التَّنازع في إيجاب الوضوء واختلاف الآثار(18) عن النَّبيِّ صلعم. قال الطَّحَاوِيُ: والحجَّة في ذلك مِن جهة النَّظر أنَّا رأينا(19) كلَّ ما مسَّته النَّار أنَّ أكلها قبل مماسَّة النَّار إيَّاها لا ينقض الوضوء، فأردنا أن ننظر هل للنَّار حكمٌ يجب في الأشياء إذا مسَّتها النَّار فينقل حكمها إليها؟ فرأينا الماء(20) طاهرًا يؤدَّى به الفرض، ثمَّ رأيناه إذا سُخن(21) أنَّ حكمه في الطَّهارة(22) على ما كان عليه قبل مماسَّة النَّار له، فكان في النَّظر أنَّ الطَّعام الطَّاهر الَّذي لا يكون أكله قبل مماسَّة النَّار حدثًا، إذا مسَّه(23) النَّار لا تنقله عن حاله ولا تغيِّر(24) حكمه، ويكون حكمه بعد مسيس(25) النَّار إيَّاه كحكمه قبل ذلك، قياسًا ونظرًا. وفرَّق أحمدُ بن حَنْبَلٍ وإِسْحَاقُ بين أكل لحوم الإبل وغيرها، فقالا: إنَّ أكل لحوم(26) الإبل نَيِّئًا أو مطبوخًا فعليه الوضوء، واحتَجَّ أحمدُ بما رواه سُفْيَان عن سِمَاكَ عن جعفرِ بنِ أبي ثَوْرٍ، عن جَابِرِ بنِ سَمُرَةَ قالَ: ((سُئِلَ النَّبيُّ صلعم أَنَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُوْمِ الإِبِلِ؟ فَقَالَ(27): نَعَمْ. قِيْلَ(28): أَفَنَتَوَضَّأُ مِنْ لحُوُمِ الغَنَمِ؟ قَالَ: لَا))، وهذا لو صَحَّ لكان(29) منسوخًا بما ذكرنا أنَّ آخر(30) الأمْرين ترك الوضوء مما مسَّت النَّار. وقد يحتمل أن يكون الوضوء محمولًا على الاستحباب والنَّظافة لسُهُوكَةِ الإبل لا على الإيجاب؛ لأنَّ تناول الأشياء النَّجسة مثل الميِّتة والدَّم ولحم الخنزير لا ينقض الوضوء فلأن لا توجبه الأشياء الطَّاهرة أَولَى.


[1] في (م): ((اختلف)).
[2] زاد في (ص): ((من)).
[3] في (م): ((قال)).
[4] في (م): ((ولا)).
[5] في (ص): ((ذلك)).
[6] قوله ((بن الخطَّاب)) ليس في (م).
[7] في (م): ((وأحمد بن إسحاق)).
[8] في (م): ((أخير)).
[9] في (م): ((شعيب)).
[10] قوله: ((فتوضأ)) ليس في (ص).
[11] زاد في (م): ((بعده)).
[12] في (م): ((قال)).
[13] في (م): ((يقول)).
[14] في (م): ((ما)).
[15] في (م): ((إلي)).
[16] في المطبوع و(ص): ((وغيره)).
[17] في (ص): ((فلا)).
[18] زاد في المطبوع: ((في ذلك)).
[19] زاد في المطبوع و(ص): ((أن)).
[20] في (ص): ((فرأينا النار والماء)).
[21] في (م): ((ثمَّ إذا أسخن)).
[22] في (م): ((طهارته)).
[23] في (م) والمطبوع و(ص): ((مسَّته)).
[24] في (ص): ((يتغير)).
[25] في (م): ((مسس)).
[26] في (م): ((لحم)).
[27] في (م): ((قال)).
[28] في المطبوع: ((فقيل)).
[29] في (م): ((كان)).
[30] في (م): ((بما ذكر فإنَّ آخر)).