شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب غسل الرجلين إلى الكعبين

          ░39▒ باب غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ إلى الْكَعْبَيْنِ.
          فيه: عَبْدُ اللهِ بْنُ زَيْدٍ: (أنه تَوَضَّأَ لَهُمْ وُضُوءَ رسولِ الله صلعم(1) فَدَعَا بِتَوْرٍ مِنْ مَاءٍ، فَأَكْفَأَ على يَدِيهِ مِنَ التَّوْرِ وَغَسَلَهما ثَلاثًا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ في التَّوْرِ فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلاثًا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاثًا، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهِ اليمنى إلى الْمِرْفَقَيْنِ مَرَّتَيْنِ(2)، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ مَرَّةً وَاحِدَةً(3)، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ إلى الْكَعْبَيْنِ). [خ¦186]قد تقدم القول في غسل الرجلين وما للعلماء في ذلك(4) فأغنى عن إعادته، ونذكر في / هذا الباب من ذلك ما لم يتقدم، وذلك قوله: (فَغَسَلَ يَدَيْه إلى الْمِرْفَقَيْنِ وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ إلى الْكَعْبَيْنِ) فذهب جمهور العلماء إلى أن المرفقين يدخلان في غسل الذراعين في الوضوء، وهو قول مالك في رواية ابن القاسم وقول الكوفيين والشافعي وأحمد وجماعة، وخالف زفر أصحابه وقال(5): لا يجب غسل المرفقين، وروى أشهب وابن نافع عن مالك في المجموعة(6) قال: ليس عليه مجاوزة المرفقين ولا الكعبين في الغسل، وإنما عليه أن يبلغ إليهما.
          واحتج زفر بأن الله ╡ أمر بغسلهما إلى المرافق وجعل المرافق حدًّا، والحدُّ لا يدخل في المحدود كقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلى اللَّيْلِ}[البقرة:187]فجعل الليل حدًّا للصوم ولم يدخل شيء من الليل فيه، وكما نقول: دار فلان تنتهي إلى دار فلان، فتكون دار فلان حدًّا لها ولا تدخل دار فلان في داره وكذلك هاهنا، وقال الطبري: كل غاية حُدَّتْ بـإلى فقد تحتمل في كلام العرب دخول الغاية في الحد وخروجها منه، فإذا(7) احُتمِلَ ذلك لم يجز لأحد القضاء بأنها داخلة فيه إلا لمن لا يُجوِّز خلافه، ولا حكم في ذلك عندنا(8) ممن يجب التسليم لحكمه.
          وحجة الجماعة أن قوله ╡: {إلى المَرَافِقِ}[المائدة:6]بمعنى مع وبمعنى الواو، وتقديره(9): فاغسلوا وجوهكم وأيديكم والمرافق أو مع(10) المرافق كما قال ╡: {مَنْ أَنْصَارِي إلى الله}[آل عِمْرَان:52]، أي مع الله {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ}[النساء:2]أي مع أموالكم، وقد قال بعض أهل اللغة: لا يحتاج إلى هذا التأويل، ولو كان(11) كما تأوله لوجب غسل اليد من أطراف الأصابع إلى أصل الكتف، ولا يجوز أن تخرج إلى عن بابها وذلك لأنها بمعنى الغاية أبدًا، وجائز أن تكون بمعنى الغاية وتدخل المرافق في الغسل لأن الثاني إذا كان من الأول كان ما بعد إلى داخلًا فيما قبله، فدخلت المرافق في الغسل لأنها من اليدين ولم يدخل الصيام في الليل في قوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلى اللَّيْلِ}[البقرة:187]لأن الليل ليس من النهار، قال(12) ابن القصار: واليد يتناولها الاسم إلى الإبط بدليل ما روي عن عمار أنه كان يتيمم إلى الآباط امتثالًا لما اقتضاه اسم اليد، وعمار من وجوه أهل اللغة، فلما استثنى الله بعض ذلك بقوله: {إلى المَرَافِقِ} بقي المرفق مغسولًا مع الذراعين نحو الاسم، ومن أوجب غسل المرفقين فقد أدى فرضه بيقين، واليقين في أداء الفرض واجب.
          والخلاف في غسل الكعبين مع الرجلين كالخلاف في غسل المرفقين مع الذراعين والحجة فيهما واحدة، وأما قول مالك في ذلك فروى ابن القاسم عنه أنه إن ذهب المرفقان مع الذراعين في القطع لم يكن عليه غسل موضع القطع، وأما الأقطع الكعبين فلا بد أن يغسل ما بقي منهما لأن الكعبين يبقيان في الساقين بعد القطع، واختلف العلماء في حد الكعبين اللذين يجب إليهما الوضوء، فروى أشهب عن مالك قال: الكعب هو الملصق(13) بالساق المحاذي للعقب، وهو قول الشافعي وأحمد، وقال أبو حنيفة: هو الشاخص في ظهر القدم، وأهل اللغة لا يعرفون ما قال، قال الأصمعي: الكعبان من الإنسان العظمان الناشزان من جانبي القدم، وأنكر قول العامة أنه الذي في ظهر القدم، والكعب عند العرب ما نشز واستدار، وقال أبو زيد: في كل رِجْلٍ كعبان، وهما عظما طرف الساق ملتقى القدمين يقال لهما: منجمان، والدليل على صحة هذا قول النعمان بن بشير حين قال لهم رسول الله صلعم(14): ((أقيموا صفوفكم)) فقال النعمان: فلقد(15) رأيت الرجل يلزق كعبه بكعب صاحبه، وهذا لا يصح إلا مع القول بأنهما الناتئان في جانبي الساقين.


[1] قوله: ((صلعم)) ليس في (ص).
[2] في (م): ((ثم غسل يديه مرتين إلى المرفقين)).
[3] قوله ((مرة واحدة)) ليس في (م).
[4] زاد في (م): ((قبل هذا)).
[5] في (م): ((فقال)).
[6] في المطبوع: ((المجموع)).
[7] في (م) و (ص): ((وإذا)).
[8] في (م): ((ولا حكم عندنا في ذلك)).
[9] في (ص): ((تقديره)).
[10] في (م): ((ومع)).
[11] قوله: ((كان)) زيادة من (ص).
[12] في (م): ((وقال)).
[13] في (م): ((الملتصق)).
[14] في (ص): ((النبي ◙)).
[15] في (م): ((والدليل على صحة هذا قوله ◙ ((أقيموا صفوفكم)) قال النعمان بن بشير: فلقد)).