شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب إذا ألقى على ظهر المصلي قذر أو جيفة لم تفسد عليه صلاته

          ░69▒ بَابُ: إِذَا أُلْقِيَ عَلَى ظَهْرِ المُصَلِّي قَذَرٌ أَوْ جِيفَةٌ لَمْ تَفْسُدْ صَلاتُهُ.
          قَالَ(1): وَكَانَ ابنُ عُمَرَ إِذَا رَأَى فِي ثَوْبِهِ دَمًا وَهُوَ يُصَلِّي وَضَعَهُ وَمَضَى فِي صَلاتِهِ.
          وَقَالَ(2) ابنُ المُسَيَّب وَالشَّعْبِيُّ: إِذَا صَلَّى وَفِي ثَوْبِهِ دَمٌ أَوْ جَنَابَةٌ، أَوْ لِغَيْرِ القِبْلَةِ، أَوْ تَيَمَّمَ وصَلَّى ثمَّ أَدْرَكَ المَاءَ فِي وَقْتِهِ لا يُعِيْدُ.
          وفيهِ(3): ابنُ مَسْعُودٍ: (أَنَّ النَّبِيَّ صلعم كَانَ يُصَلِّي عِنْدَ البَيْتِ وَأَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابهُ(4) جُلُوْسٌ، إِذْ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَيُّكُمْ يَجِيءُ(5) بِسَلا جَزُورِ بَنِي فُلَانٍ فَيَضَعُهُ عَلَى ظَهْرِ مُحَمَّدٍ إِذَا(6) سَجَدَ، فَانْبَعَثَ أَشْقَى القَوْمِ فَجَاءَ بِهِ، فَنَظَرَ حتَّى إِذَا(7) سَجَدَ النَّبِيُّ صلعم وَضَعَهُ(8) عَلَى ظَهْرِهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَأَنَا أَنْظُرُ لا أُغْنِي شَيْئًا، لَوْ كَانَتْ لي مَنَعَةٌ،(9) فَجَعَلُوا يَضْحَكُونَ وَيُحِيلُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَرَسُولُ اللهِ صلعم سَاجِدٌ لا يَرْفَعُ رَأْسَهُ حتَّى / جَاءَتْهُ فَاطِمَةُ فَطَرَحَتُهُ عَنْ ظَهْرِهِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ فقَالَ(10): اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ _ثَلاثَ مَرَّاتٍ_ فَشَقَّ عَلَيْهِمْ إِذْ دَعَا عَلَيْهِمْ(11)). فذكر الحديثَ إلى قوله: (فَلَقَدْ رَأَيْتُ الَّذِيْنَ عَدَّ رَسُولُ اللهِ صلعم صَرْعَى في قَلِيبِ بَدْرٍ). [خ¦240]
          قال المُهَلَّبُ: إِنَّما جعل السَّلا جيفةً؛ لأنَّهم لم يكونوا أهل كتابٍ فتكون ذبائحهم طاهرةً، وإنَّما كانوا مشركين لا كتاب لهم يذبحون به، فكانت ذبائحهم مِيتةً.
          وأيضًا لو كان السَّلا مِن ذبائح المسلمين لكان نجسًا لكثرة(12) الدَّم فيه، ذكره مبيَّنًا(13) في كتاب الصَّلاة [خ¦520]، فقال: أَيُّكُمْ يَقُوْمُ إِلَى سَلَا جَزُوْرِ آلِ فُلَانٍ فَيَعْمِدَ إِلَى فَرْثِهَا وَدَمِهَا وَسَلَاهَا؟ فَانْبَعَثَ أَشْقَى القَوْمِ(14)... وذكر الحديث(15). ومعلومٌ(16) أنَّهم كانوا مجوسًا(17) لا كتاب لهم، ففيه من الفقه: أنَّ غسل النَّجاسات في الصَّلاة سُنَّةٌ على ما قاله مالكٌ والأوزاعيٌّ وجماعةٌ من التَّابعين. وقد ذكر(18) البخاريُّ بعضهم في أوَّل هذا الباب [خ¦4/69-405]، ولو كانت فرضًا ما تمادى النَّبيُّ صلعم في صلاته والفَرْث والدَّم على ظهره، ولقطع الصَّلاة. فإن(19) قيل: فإنَّ هذه الصَّلاة كانت في أوَّل الإسلام، ويحتمل أن تكون(20) قبل أن تُفرض عليه الصَّلاة، وتكون(21) نافلةً فلم يحتج إلى إعادتها، قيل: لا نعلم ما كانت، ولو كانت نافلةً لكان سبيلها سبيل الفرائض، وأيُّ وقتٍ كانت هذه الصَّلاة فلا شكَّ أنها كانت بعد نزول قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}[المدثر:4]لأنَّ هذه الآية أوَّل ما نزل عليه مِن القرآن قبل كلِّ(22) صلاةِ فريضةٍ أو نافلةٍ، وتأوَّلها جمهور السَّلف أنَّها في غير الثِّياب، وأنَّ المراد بها طهارة القلب ونزاهة النَّفس عن الدَّناءة(23) والآثام، قالوا: وقول ابن سِيرِين أنَّه أراد بذلك الثِّياب شُذُوذٌ ولم يقلْه غيره. وفي هذا الحديث مِن الفقه: أنَّ مَن صلَّى بثوبٍ نجسٍ وأمكنه طرحه في الصَّلاة أنَّه يتمادى في صلاته ولا يقطعها، على ما قاله الكوفيُّون، وهي رواية ابن وَهْبٍ عن مالكٍ. وسأذكر اختلاف قول مالكٍ وأصحابه في هذه المسألة في كتابِ الصَّلاةِ(24) في بابِ المرأةِ تطرحُ عنِ المُصَلِّي شيئًا من الأَذَى، إنْ شاء الله ╡ [خ¦520]. وقد رُوِيَ عن أبي مِجْلَزٍ أنَّه سُئِلَ عن الدَّم يكون في الثَّوب، فقال: إذا كبَّرت ودخلت في الصَّلاة ولم ترَ شيئًا ثمَّ رأيته بعدُ فأتمَّ الصَّلاة(25)، وعن أبي جعفرٍ مثله. واختلفوا(26) فيمن صَلَّى بثوبٍ نجسٍ ثمَّ علم به بعد الصَّلاة، فقال ابنُ مَسْعُودٍ وابنُ عُمَرَ وعَطَاءٌ وابن المُسَيَّب وسَاَلٌم والشَّعْبِيُّ والنَّخَعِيُّ ومُجَاهِدٌ(27) وطَاوُسٌ والزُّهْرِيُّ(28): لا إعادة عليه، وهو قول الأوزاعيِّ وإِسْحَاقَ وأبي ثَوْرٍ، وقال رَبِيْعَةُ ومالكٌ: يُعِيْدُ في الوقت، وقال الشَّافعيُّ وأحمدُ: يُعِيْدُ أبدًا. وأمَّا من تعمَّد الصَّلاة بالنَّجاسة فإنَّه يُعِيْدُ أبدًا(29) عند مالكٍ وكثيرٍ من العلماء لاستخفافه بالصَّلاة إلَّا أَشْهَبَ فقالَ: لا يُعِيْدُ المتعمِّد إلِّا في الوقت فقط. قال المُهَلَّبُ: وفيه أنَّ مَن أُوذي فله(30) أن يدعو على مَن آذاه، كما دعا النَّبيُّ صلعم على كفَّار قريشٍ.
          قال المُؤَلِّفُ: هذا إذا كان الَّذي آذاه كافرًا، فإنْ كان مسلمًا فالأحسن ألَّا يدعو عليه؛ لقول النَّبيِّ صلعم لعَائِشَةَ حين(31) دعت على السَّارق: ((لَا تُسَبِّخِي عَنْهُ بِدُعَائِكِ عَلَيْهِ))، ومعنى ((لَا تُسَبَّخِي عَنْهُ))، أي: لا تُخَفِّفِي عنه. والتَّسْبِيْخُ: التَّخفيف، عن صاحب «العين»(32). وفيه(33) بركة دعوة النَّبيِّ ◙، وأنَّها أُجيبت فيمن دعا عليه، وقال أبو عُبَيْدٍ: السَّلا: الجلدة التي يكون فيها الولد، قال(34) ابن دُرَيْدٍ: وهي(35) المشيمة، وقوله: (لَوْ كَانَتْ لِي مَنَعَةٌ) يُرِيدُ قوَّةً أمتنع بها. قال صاحب(36) «العين»: يُقال(37): رجلٌ منيعٌ: في عزٍّ ومنعة، وقد منع مناعةً ومنعًا(38).
          وقوله: (وَيُحِيْلُ(39) بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ) يعني ينسب ذلك بعضهم إلى بعض مِن قولك: أحلت الغريم: إذا جعلت له أن يتقاضى ما له عليك مِن غيرك، ويحتمل أن يكون مِن قول العرب: حال الرَّجل على ظهر الدَّابَّة حولًا، وأحال: وثب. وفي الحديث: ((أَنَّ النَّبيَّ صلعم لَمَّا صَبَّحَ أَهْلَ خَيْبَرَ غَدْوَةً فَرَآهُ أَهْلُهَا، أَحَالُوا إِلَى الحِصْنِ)) أي: وثبوا إليه(40)، والقليب: البئر قبل أن تُطوى. وإنَّما سُمِّيت بدرٌ بدرًا، ببَدْرِ بنِ قُرَيْشِ بنِ الحارثِ بنِ مَخْلَدٍ بنِ النَّضْرِ بنِ كِنَانَةَ، وهو الَّذي احتفرها، فنُسبتْ إليه. عن الخُشَنِيِّ.


[1] قوله: ((قال)) ليس في (م).
[2] في (ص): ((وكان)).
[3] في (م): ((فيه)).
[4] في (م): ((وأصحاب له)).
[5] في (م): ((يأتي)).
[6] زاد في (م): ((هو)).
[7] قوله: ((إذا)) ليس في (م).
[8] في (م): ((فوضعه)).
[9] زاد في (م): ((قال)).
[10] في المطبوع و(ص): ((ثمَّ قال)).
[11] قوله: ((إذ دعا عليهم)) ليس في (م).
[12] في (م): ((لذكر)).
[13] قوله: ((مبيَّنًا)) ليس في (م).
[14] زاد في (م): ((فلمَّا سجد النَّبيُّ صلعم وضعه بين كتفيه)).
[15] قوله: ((وذكر الحديث)) ليس في (م).
[16] في (م): ((فكيف ومعلوم)).
[17] قوله: ((مجوسًا)) ليس في (م).
[18] في (م): ((فذكر)).
[19] زاد في (م) قبل (فإن): ((قال غيره)).
[20] قوله: ((ويحتمل أن تكون)) ليس في (م).
[21] في (م): ((فكانت)).
[22] قوله: ((كلِّ)) ليس في (م).
[23] في (م) و(ص): ((الدَّنايا)).
[24] قوله: ((في كتاب الصلاة)) ليس في (ص).
[25] في (م): ((بالصَّلاة)).
[26] في (م): ((وأمَّا اختلافهم)).
[27] قوله: ((ومجاهد)) ليس في (م).
[28] قوله: ((والزُّهْرِيُّ)) ليس في (م).
[29] في (ص): ((يعيد الصلاة)).
[30] في (م): ((من أُوذي أن له)).
[31] قوله: ((لعائشة حين)) ليس في (م).
[32] قوله: ((ومعنى لا تسبِّخي عنه، أي: لا تخفِّفي عنه. والتَّسبيخ: التَّخفيف، عن صاحب «العين»)) ليس في (م).
[33] زاد في (م) قبل (وفيه) و(ص): ((قال المُهَلَّبُ))، وزاد في المطبوع قبل (وفيه): ((وقال المُهَلَّبُ)).
[34] قوله: ((قال)) ليس في (م).
[35] في (م): ((هي)).
[36] في (م): ((وفي كتاب)).
[37] في (ص): ((يراد)).
[38] في (م): ((ومناعًا)).
[39] في (م): ((يحيل)).
[40] قوله: ((ويحتمل أن يكون من قول العرب: حال الرَّجل على ظهر الدَّابَّة حولًا،... إلى قوله...، أحالوا إلى الحصن أي: وثبوا إليه.)) ليس في (م).