إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت

          1651- وبه قال: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ المُثَنَّى) المعروف بالزَّمِن قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَهَّابِ) بن عبد المجيد الثَّقفيُّ (قَالَ) المؤلِّف:
          «ح»: (وَقَالَ لِي خَلِيفَةُ) بن خيَّاطٍ، أي: على سبيل المذاكرة؛ إذ لو كان على سبيل التَّحمُّل لقال: حدَّثنا ونحوه، والمسوق هنا لفظ حديثه، وأمَّا لفظ حديث محمَّد بن المُثنَّى فسيأتي إن شاء الله تعالى في «باب عمرة التَّنعيم» [خ¦1785].
          (حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَهَّابِ) الثَّقفيُّ قال: (حَدَّثَنَا حَبِيبٌ المُعَلِّمُ) بكسر اللَّام المُشدَّدة مِنَ التَّعليم (عَنْ عَطَاءٍ) هو ابن أبي رباحٍ (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ) الأنصاريِّ ( ☻ قَالَ: أَهَلَّ النَّبِيُّ صلعم ) أي: أحرم (هُوَ وَأَصْحَابُهُ بِالحَجِّ) فيه دليلٌ على أنَّه ╕ كان مفردًا، وإطلاق لفظ الأصحاب / محمولٌ على الغالب لِما يأتي إن شاء الله تعالى (وَلَيْسَ مَعَ أَحَدٍ مِنْهُمْ هَدْيٌ، غَيْرَ النَّبِيِّ صلعم وَطَلْحَةَ) بنصب «غيرَ» على الاستثناء، ولأبي ذرٍّ: ”غيرِ“ بجرِّها، صفةٌ لـ «أحدٍ»، قال أبو حيَّان: ولا يجوز الرَّفع (وَقَدِمَ عَلِيٌّ) هو ابن أبي طالبٍ (مِنَ اليَمَنِ، وَمَعَهُ هَدْيٌ) وفي روايةٍ: ”وقدم عليٌّ من سِعايته“ بكسر السِّين، أي: من عمله في السَّعي في الصَّدقات، لكن قال بعضهم: إنَّما بعثه أميرًا؛ إذ لا يجوز استعمال بني هاشمٍ على الصَّدقة، وأُجيب بأنَّ سعايته لا تتعيَّن للصَّدقة، فإنَّ مطلق الولاية يُسمَّى سعايةً، سلَّمنا، لكن يجوز أن يكون ولَّاه الصَّدقات محتسبًا، أو بعُمالةٍ من غير الصَّدقة، وقوله: «ومعه هديٌ»: جملةٌ اسميَّةٌ حاليَّةٌ، وفي رواية أنسٍ السَّابقة في «باب من أهلَّ في زمن النَّبيِّ صلعم » [خ¦1558] فقال: «بما أهللت؟» (فَقَالَ: أَهْلَلْتُ بِمَا أَهَلَّ بِهِ النَّبِيُّ صلعم ) ولم يذكر في هذا الحديث جواب النَّبيِّ صلعم حين قال له ذلك(1) كقوله: بما أهللت، وفي رواية أنسٍ المذكورة: فقال _أي: النَّبيُّ صلعم _: «لولا أنَّ معي الهدي لأحللت» وزاد محمَّد بن(2) بكرٍ عن ابن جريجٍ قال [خ¦1557]: «فأهدِ(3)، وامكث حرامًا كما أنت»، وهذا غير ما أجاب به أبا موسى، فإنَّه قال‼ له _كما في «الصَّحيحين» [خ¦1558]_: «بما أهللتَ؟» قال: بإهلال النَّبيِّ صلعم ، قال: «هل(4) سقت الهدي؟» قال: لا، قال: «فطف بالبيت وبالصَّفا والمروة ثمَّ أحلَّ...» الحديثَ، وإنَّما أجابه بذلك لأنَّه ليس معه هديٌ، فهو من المأمورين بفسخ الحجِّ؛ بخلاف عليٍّ فإن معه هديًا. وفيه: صحَّة الإحرام المُعلَّق على ما أحرم به فلانٌ، وينعقد ويصير محرمًا بما أحرم به فلانٌ، وأخذ بذلك الشَّافعيُّ فأجاز الإهلال بالنِّيَّة المبهمة، ثمَّ له أن ينقلها إلى ما شاء من حجٍّ أو عمرةٍ.
          (فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلعم أَصْحَابَهُ) ممَّن ليس معه هديٌ (أَنْ يَجْعَلُوهَا) أي: الحجَّة التي أهلُّوا بها (عُمْرَةً) وهو معنى فسخ الحجِّ إلى العمرة (وَيَطُوفُوا) هو من عطف المُفصَّل على المجمل؛ مثل: توضَّأ وغسل وجهه، والمراد بالطَّواف هنا: ما هو أعمُّ من الطَّواف بالبيت والسَّعي بين الصَّفا والمروة، قال تعالى: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا}[البقرة:158] أو اقتصر على الطَّواف بالبيت لاستلزامه السَّعي بعده، والتَّقدير: فيطوفوا ويسعوا، فحُذِف اكتفاءً على أنَّه قد جاء في رواية التَّصريح بهما (ثُمَّ يُقَصِّرُوا وَيَحِلُّوا) بفتح أوَّله وكسر الحاء، أي: يصيروا حلالًا (إِلَّا مَنْ كَانَ مَعَهُ الهَدْيُ) استثناءٌ من قوله: «فأمر أصحابه» (فَقَالُوا) أي: المأمورون بالفسخ، ولغير أبي ذرٍّ: ”قالوا“ : (نَنْطَلِقُ) أي: أننطلق، فحذف همزة الاستفهام التَّعجبيِّ (إِلَى مِنًى، وَذَكَرُ أَحَدِنَا يَقْطُرُ) منيًّا؟! هو من باب المبالغة، أي: أنَّه يفضي بنا إلى مجامعة النِّساء، ثمَّ نحرم بالحجِّ عقب ذلك، فنخرج وذَكَرُ أحدنا لقربه من الجماع يقطر منيًّا، وحالة الحجِّ تنافي التَّرفُّه وتناسب الشَّعث، فكيف يكون ذلك؟ (فَبَلَغَ ذلك)(5) أي: قولهم هذا، وليس في «اليونينيَّة» لفظ: ”ذلك“ (النَّبِيَّ صلعم ) بنصب: «النَّبيَّ» على المفعوليَّة(6)، وفي روايةٍ: «فما ندري أشيءٌ بلغه من السَّماء أم شيءٌ من قِبَل النَّاس؟» (فَقَالَ) صلعم : (لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ) يجوز أن تكون «ما» موصولةً، أي: الذي، أو نكرةً موصوفةً، أي: شيئًا، وأيًّا كان فالعائد محذوفٌ، أي: استدبرته، أي: لو كنت الآن مستقبلًا زمن الأمر الذي استدبرته (مَا أَهْدَيْتُ) أي(7): ما سقت الهدي (وَلَوْلَا أَنَّ مَعِي الهَدْيَ؛ لَأَحَلَلْتُ) أي: بالفسخ(8) لأنَّ وجوده مانعٌ من فسخ الحجِّ إلى العمرة، والتَّحلُّل منها والأمر الذي استدبره صلعم هو ما حصل لأصحابه من مشقَّة انفرادهم عنه بالفسخ، حتَّى(9) إنَّهم توقَّفوا وتردَّدوا وراجعوه، أو المعنى: لو أنَّ الذي رأيت في الآخر وأمرتكم به من الفسخ عنَّ لي في أوَّل الأمر ما سقت الهدي لأنَّ سوقه يمنع منه لأنَّه لا ينحر إلَّا بعد بلوغه محلِّه يوم النَّحر، وقال في «المعالم»: إنَّما أراد ╕ تطييب قلوب أصحابه لأنَّه كان يشقُّ عليهم أن يحلُّوا وهو محرمٌ، ولم يعجبهم أن يرغبوا بأنفسهم‼ ويتركوا الاقتداء به، فقال ذلك لئلَّا يَجِدوا في أنفسهم، وليعلموا أنَّ الأفضل في حقِّهم ما دعاهم إليه. ولا يُقال: إنَّ الحديث يدلُّ على أنَّ التَّمتُّع أفضل لأنَّه ╕ لا يتمنَّى / إلَّا الأفضل لأنَّا نقول: التَّمنِّي هنا ليس لكونه أفضل مطلقًا، بل لأمرٍ خارجٍ، فلا يلزم من ترجيحه من وجهٍ ترجيحَه مطلقًا كما ذكره ابن دقيق العيد، فإن قلت: قد ورد عنه صلعم ما يقتضي كراهة قول: «لو» حيث قال ╕ : «لو: تفتح عمل الشَّيطان»، أُجيب بأنَّ المكروه استعمالها في التَّلهُّف على أمور(10) الدُّنيا: إمَّا طلبًا كقوله: لو فعلت كذا حصل لي كذا، وإمَّا هربًا كقوله: لو كان كذا وكذا؛ لما كان(11) بي كذا وكذا(12) لما في ذلك من صورة عدم التَّوكُّل ونسبة الأفعال إلى غير القضاء والقدر، أمَّا تمنِّي القربات _كما في هذا(13) الحديث_ فلا كراهة لانتفاء المعنى المذكور.
          (وَحَاضَتْ عَائِشَةُ ♦ فَنَسَكَتِ المَنَاسِكَ كُلَّهَا) أتت بأفعال الحجِّ كلِّها (غَيْرَ أَنَّهَا لَمْ تَطُفْ بِالبَيْتِ) أي: ولم تسعَ بين الصَّفا والمروة، وحذفه لأنَّ السَّعي لا بدَّ من تقديم طوافٍ عليه، فيلزم من نفيِه نفيَه، فاكتفى بنفي الطَّواف (فَلَمَّا طَهُـَرَتْ) بفتح الهاء وضمِّها (طَافَتْ بِالبَيْتِ) أي: وَسَعَتْ بين الصَّفا والمروة (قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ تَنْطَلِقُونَ)؟ أي: أتنطلقون، فحُذِفت همزة الاستفهام (بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ) أي: العمرة التي فسخوا الحجَّ إليها، والحجَّة التي أنشؤوها من مكَّة (وَأَنْطَلِقُ بِحَجٍّ) مفردٍ بلا عمرةٍ مفردةٍ(14) كما وقع لهم؟ (فَأَمَرَ) النَّبيُّ صلعم (عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ) الصِّدِّيق ☻ (أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا إِلَى التَّنْعِيمِ) لتعتمر منه (فَاعْتَمَرَتْ بَعْدَ الحَجِّ).
          وهذا الحديث أخرجه أبو داود، وفيه: التَّحديث والعنعنة والقول، وذكر الإسناد من طريقين، ورواته كلُّهم بصريُّون إلَّا عطاءً؛ فمكِّيٌّ.


[1] «له»: ليس في (د).
[2] زيد في (د): «أبي»، وليس بصحيحٍ.
[3] في غير (د): «فأهلِّ»، والمثبت موافقٌ لما في «صحيح البخاريِّ».
[4] «هل»: ليس في (م).
[5] في (ج): شطب على قوله: «ذلك».
[6] في (د): «نُصِبَ على المفعوليَّة».
[7] «أي»: مثبتٌ من (م).
[8] «أي: بالفسخ»: ليس في (د).
[9] في (د): «ثمَّ».
[10] في (ص): «أمر».
[11] «كان»: مثبتٌ من (ص) و(م).
[12] «لما كان بي كذا وكذا»: ليس في (م).
[13] «هذا»: ليس في (د).
[14] «مفردةً»: ليس في (د)، وفي (ص): «منفردةٍ».