إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث عائشة: اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر

          832- 833- وبه قال: (حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ) الحكم بن نافعٍ (قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ) أي: ابن أبي حمزة (عَنِ) ابن شهابٍ (الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنَا عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلعم ) سقط قوله «زوج النَّبيِّ...» إلى آخره لأبي ذَرٍّ وابن عساكر، أنَّها (أَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم كَانَ يَدْعُو فِي) آخر (الصَّلَاةِ) بعد التَّشهُّد قبل السَّلام، وفي حديث أبي هريرة عند مسلمٍ مرفوعًا: «إذا تشهَّد أحدكم فليقل»: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ) بفتح الميم وكسر السِّين مُخفَّفةً، وقيَّده بـ «الدَّجال» ليمتاز عن عيسى ابن مريم ◙ . والدَّجل: الخلط، وسُمِّي به لكثرة خلطه الباطل بالحق، أو من «دجل»: كذب، والدَّجَّال: الكذَّاب. وبـ «المسيح» لأنَّ إحدى عينيه ممسوحةٌ، «فَعِيلٌ» بمعنى «مفعولٍ»، أو لأنَّه يمسح الأرض، أي: يقطعها في أيَّامٍ معدودةٍ، فهو بمعنى «فاعلٍ»، أو لأنَّ الخير مُسِح منه، فهو مسيح الضَّلال. (وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا) ما يعرض للإنسان مدَّة حياته من الافتتان، أي: الابتلاء بالدُّنيا والشَّهوات والجهالات (وَفِتْنَةِ المَمَاتِ) ما يفتتن(1) به عند الموت في أمر الخاتمة، أعاذنا الله من ذلك، أُضِيفت إليه لقربها منه، أو من فتنة القبر، ولا تكرار مع قوله أوَّلًا: «عذاب القبر»؛ لأنَّ العذاب مُرتَّبٌ على الفتنة، والسَّبب غير المُسبِّب. (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ المَأْثَمِ) أي: ما يأثم به الإنسان، أو هو الإثم نفسه، وضعًا للمصدر موضع الاسم (وَ) أعوذ بك من (المَغْرَمِ) أي: الدَّين، فيما لا يجوز أو فيما يجوز، ثمَّ يعجز عن أدائه، فأمَّا دينٌ احتاجه وهو قادرٌ على أدائه فلا استعاذة منه، والأوَّل حقُّ الله، والثَّاني حقُّ العباد. (فَقَالَ لَهُ) أي: للنَّبيِّ صلعم (قَائِلٌ) في رواية النَّسائيِّ من طريق مَعْمَرٍ عن الزُّهريِّ: أنَّ السَّائل عائشة، ولفظها: «فقلت: يا رسول الله» (مَا أَكْثَرَ) بفتح الرَّاء على التَّعجُّب (مَا تَسْتَعِيذُ مِنَ المَغْرَمِ!) في محلِّ نصبٍ به، أي: ما أكثر استعاذتك من المغرم! (فَقَالَ) ╕ ‼ (إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ) بكسر الرَّاء، وجواب «إذا» قوله: (حَدَّثَ فَكَذَبَ) بأن يحتجَّ بشيءٍ في وفاء ما عليه ولم يقم به، فيصير كاذبًا. وذالُ «كَذَبَ» مُخفَّفةٌ، وهو عُطِف على «حَدَّث» (وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ) كأن قال لصاحب الدَّين: أُوفيكَ دينَك في يوم كذا، ولم يُوفِ، فيصير مخلفًا لوعده، والكذب وخُلْف الوعد من صفات المنافقين، وللحَمُّويي والمُستملي: ”وإذا وعد أخلف“ وهذا الدُّعاء صدر منه ╕ على سبيل التَّعليم لأمَّته، وإلَّا فهو ╕ معصومٌ من ذلك، أو أنَّه سلك به طريق التَّواضع، وإظهار العبوديَّة، وإلتزام خوف الله تعالى، والافتقار إليه، ولا يمنع تكرُّر الطَّلب مع تحقُّق الإجابة لأنَّ ذلك يحصِّل الحسنات، ويرفع الدَّرجات، وزاد أبو ذَرٍّ عن المُستملي هنا: ”قال محمَّد بن يوسف بن مطرٍ الفَـِرَبْريِّ يحكي عن المؤلِّف أنَّه قال: سمعت خلف بن عامرٍ الهَمْدانيَّ يقول في المَسِيح؛ بفتح الميم وتخفيف السِّين، والمِسِّيح مشدد مع كسر الميم: ليس بينهما فرقٌ، وهما واحدٌ في اللَّفظ، أحدهما: عيسى ابن مريم ◙ ، والآخر: الدَّجال“ لا اختصاص لأحدهما(2) بأحد الأمرين، لكن إذا أُرِيد الدَّجَّال قُيِّد به، كما مرَّ، وقال أبو داود في «السُّنن»: «المسِّيح» مُثقَّلٌ: هو الدَّجَّال، ومُخفَّفٌ: عيسى ◙ ، وحُكِي عن بعضهم: أنَّ الدَّجَّال مسيخٌ؛ بالخاء المُعجَمة، لكن نُسِب إلى التَّصحيف.
          وفي الحديث: التَّحديثُ بالجمع والإخبار، ورواية تابعيٍّ عن / تابعيٍّ عن صحابيَّةٍ، ورواته ما بين حمصيٍّ ومدنيٍّ، وأخرجه المؤلِّف في «الاستقراض» [خ¦2397]، ومسلمٌ في «الصَّلاة»، وكذا أبو داود والنَّسائيُّ.
          (وَ) بالسَّند السَّابق إلى شعيبٍ (عَنِ الزُّهْرِيِّ) محمَّد بن مسلمٍ (قَالَ: أَخْبَرَنِي) بالإفراد (عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ) ولأبي ذَرٍّ والأَصيليِّ: ”أخبرني عروة بن الزُّبير أنَّ عائشة“ ( ♦ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم يَسْتَعِيذُ فِي) آخر (صَلَاتِهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ) ساقه هنا مختصرًا، وفي السَّابق [خ¦832] مُطوَّلًا ليفيد أنَّ الزُّهريَّ رواه كذلك مع زيادة ذكر السَّماع عن عائشة ♦ . فإن قلت: كيف استعاذ من فتنة الدَّجَّال مع تحقُّق عدم إدراكه؟ أُجيب بأنَّ فائدته تعليم أمَّته لينتشر خبره بين الأمَّة جيلًا بعد جيلٍ بأنَّه كذَّابٌ مبطلٌ ساعٍ على وجه الأرض بالفساد، حتَّى لا يلتبس كفره عند خروجه على من يدركه.


[1] في غير (ب) و(س): «يفتن».
[2] في (د): «الاختصاص أحدهما»، وليس بصحيحٍ.