إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب الجمع بين السورتين في الركعة

          ░106▒ (بَابُ) حكم (الجَمْعِ بَيْنَ السُّورَتَينِ في الرَّكْعَةِ) الواحدة من الصَّلاة، ولابن عساكر وأبي ذَرٍّ: ”في ركعةٍ“ (وَ) حكم (القِرَاءَةِ بِالخَوَاتِيمِ) بالمُثنَّاة التَّحتيَّة بعد الفوقيَّة، ولأبي ذَرٍّ والأَصيليِّ: ”بالخواتم“ أي: أواخر السُّور (وَ) القراءة (بِسُورَةٍ) بمُوحَّدةٍ أوَّلُه، ولابن عساكر: ”وسورةٍ“ (قَبْلَ سُورَةٍ) مخالفًا ترتيب المصحف العثمانيِّ (وَ) القراءة (بِأَوَّلِ سُورَةٍ).
           (وَيُذْكَرُ) بضمِّ أوَّله مبنيًّا للمفعول (عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ السَّائِبِ) بن أبي السَّائب ممَّا وصله مسلمٌ من طريق ابن جُرَيْجٍ: (قَرَأَ النَّبِيُّ صلعم المُؤْمِنُونَ) بالواو على الحكاية، ولأبي ذَرٍّ: ”المؤمنين“ وللأَصيليِّ: ”{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}“ (فِيْ) صلاة (الصُّبْحِ) بمكَّة (حَتَّى إِذَا جَاءَ ذِكْرُ مُوْسَى وَهَارُوْنَ) أي: قوله تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ}[المؤمنون:45] (أَوْ ذِكْرُ عِيسَى) أي: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً}[المؤمنون:50] (أَخَذَتْهُ) صلعم (سَعْلَةٌ) بفتح السِّين، وقد تُضَمُّ، ولابن ماجه: «فلمَّا بلغ ذكر عيسى وأمِّه؛ أخذته سعلةٌ، أو قال: شهقةٌ»، وفي روايةٍ: «شرقةٌ» (فَرَكَعَ). قِيلَ: فيه جوازُ قطع القراءة، وجواز القراءة ببعض السُّورة، وهو يَرِدُ على مالكٍ حيث كره ذلك، وأُجيب بأنَّ الَّذي كرهه مالكٌ هو أن يقتصر على بعض السُّورة مختارًا، والمستدلُّ به هنا ظاهرٌ في أنَّه كان للضَّرورة، فلا يَرِدُ عليه، نعم، الكراهة لا تثبت إلَّا بدليلٍ، وأدلَّةُ الجواز كثيرةٌ، منها: حديث زيد بن ثابتٍ: «أنَّه صلعم قرأ الأعراف في الرَّكعتين»، ولم يذكر ضرورةً.
           (وَقَرَأَ عُمَرُ) بن الخطَّاب ☺ (فِي الرَّكْعَةِ الأُوْلَى) من الصُّبح (بِمِئَةٍ وَعِشْرِيْنَ آيَةً مِنَ البَقَرَةِ، وَفِي) الرَّكعة (الثَّانِيَةِ بِسُوْرَةٍ مِنَ المَثَانِي) وهو ما يبلغ مئة آيةٍ، أو لم يبلغها، أو ما عدا السَّبع الطِّوال إلى المُفصَّل‼، سُمِّي مثانيَ؛ لأنَّها ثنت السَّبع، أو لكونها قَصُرَت عن المئين، وزادت على المُفصَّل، أو لأنَّ المئين جُعِلت مباديَ والَّتي تليها مثانيَ، ثمَّ المُفصَّل.
          وهذا التَّعليق وصله ابن أبي شيبة، لكن بلفظ: «يقرأ(1) في الصُّبح بمئةٍ من البقرة، ويتبعها بسورةٍ من المثاني». (وَقَرَأَ الأَحْنَفُ) بالمُهمَلة، ابن قيس بن معد يْكَرِب، الكنديُّ الصَّحابيُّ ☺ في صلاة الصُّبح (بِالكَهْفِ فِي) الرَّكعة (الأُوْلَى، وَفِي الثَّانِيَةِ بِيُوسُفَ أَوْ يُوْنُسَ) شكَّ الرَّاوي (وَذَكَرَ) الأحنف: (أَنَّهُ صَلَّى مَعَ عُمَرَ ☺ ) أي: وراءه (الصُّبْحَ) فقرأ (بِهِمَا) أي: بـ «الكهف» في الأولى، وبإحدى السُّورتين في الثَّانية، وهذا مكروهٌ عند الحنفيَّة؛ لأنَّ رعاية ترتيب المصحف العثمانيِّ مُستحَبَّةٌ، وقِيلَ: مكروهٌ في الفرائض دون النَّوافل، وهذا التَّعليق وصله أبو نُعيمٍ في «المُستخرَج»، وقال: في الثَّانية «يونس»، ولم يشكَّ. (وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُوْدَ) عبد الله، فيما وصله عبد الرَّزَّاق (بِأَرْبَعِيْنَ آيَةً مِنَ الأَنْفَالِ) في الرَّكعة الأولى(2)، ولفظ سعيد بن منصورٍ من وجهٍ آخر: «فافتتح الأنفال، حتَّى بلغ {وَنِعْمَ النَّصِيرُ }[الأنفال:40] وهو رأس الأربعين آيةً» (وَفِي) الرَّكعة (الثَّانِيَةِ بِسُوْرَةٍ مِنَ المِفْصَلِ) من سورة «القتال»، أو «الفتح»، أو «الحجرات»، أو «ق»(3)... إلى آخر القرآن.
           (وَقَالَ قَتَادَةُ) ممَّا وصله عبد الرَّزَّاق (فِيمَنْ يَقْرَأُ سُورَةً وَاحِدَةً) ولأبي ذَرٍّ: ”بسورةٍ واحدةٍ يفرِّقها“ (فِي رَكْعَتَيْنِ) وللأَصيليِّ: ”في الرَّكعتين“ (أَوْ يُرَدِّدُ) أي: يكرِّر (سُورَةً وَاحِدَةً فِي رَكْعَتَيْنِ) بأن يقرأ في الثَّانية بعين(4) السُّورة الَّتي قرأها في الأولى، فالتَّكرير أخفُّ من قَسْم السُّورة في ركعتين، قاله ابن المُنَيِّر. قال في «فتح الباري»: وسبب / الكراهة فيما يظهر أنَّ السُّورة مرتبطٌ(5) بعضها ببعضٍ، فأيُّ موضعٍ قَطَعَ فيه لم يكن كانتهائه إلى آخر السُّورة، فإنَّه إن(6) قَطَعَ(7) في وقفٍ غير تامٍّ كانت الكراهة ظاهرةً، وإن وقف في تامٍّ فلا يخفى أنَّه خلاف الأَوْلى. انتهى.
          واستُنبِط جواز(8) جميع ما ذكره في التَّرجمة من قول قتادة: (كُلٌّ) أي: كلُّ ذلك (كِتَابُ اللهِ) ╡ ، فعلى أيِّ وجهٍ يقرأ لا كراهة فيه، ويؤيِّد الصُّورة الأولى من قول قتادة قراءتُه ╕ في المغرب بـ «آل عمران»(9) فرَّقها في ركعتين(10)، رواه النَّسائيُّ، والثَّانية: حديث معاذ بن عبد الله الجهنيِّ: أنَّ رجلًا من جهينة أخبره: «أنَّه سمع رسول الله صلعم يقرأ في الصُّبح: { إِذَا زُلْزِلَتِ }[الزلزلة:1] في الرَّكعتين كلتيهما، فلا أدري أَنَسِيَ رسول الله(11) صلعم ، أم قرأ ذلك عمدًا؟» ولم يذكر المؤلِّف في التَّرجمة ترديد السُّورة.
          (وَقَالَ عُبَيْدُ اللهِ) بضمِّ العين مُصغَّرًا، ابن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطَّاب العمريُّ ممَّا وصله التِّرمذيُّ والبزَّار عن المؤلِّف عن إسماعيل بن أبي أويسٍ عنه (عَنْ ثَابِتٍ) البُنانيِّ (عَنْ أَنَسٍ) ولأبي ذَرٍّ والأَصيليِّ _كما في الفرع وأصله_ زيادة: ”ابن مالكٍ“: (كَانَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ) اسمهُ: كُلثوم _بضمِّ الكاف_ ابن هِدْمٍ؛ بكسر الهاء وسكون الدَّال (يَؤُمُّهُمْ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ، وَكَانَ) بالواو، ولأبوي ذَرٍّ والوقت(12) والأَصيليِّ وابن عساكر‼: ”فكان“ (كُلَّمَا افْتَتَحَ سُورَةً) ولأبي ذَرٍّ والأَصيليِّ: ”بسورةٍ“ بمُوحَّدةٍ في الأوَّل (يَقْرَأُ بِهَا لَهُمْ فِي الصَّلَاةِ، مِمَّا يُقْرَأُ بِهِ) بالضَّمِّ مبنيًّا للمفعول، أي: في الصَّلوات الَّتي يُقرَأ فيها جهرًا، ولابن عساكر: ”ممَّا يُقرَأ بها“ وجوابُ «كلَّما» قولهُ: (افْتَتَحَ) بعد الفاتحة (بـ { قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ } حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهَا) أي: إذا أراد الافتتاح، وإلَّا فهو إذا افتتح سورةً لا يكون مفتتحًا بغيرها (ثُمَّ يَقْرَأُ سُورَةً) ولأبي ذَرٍّ: ”بسورةٍ“ (أُخْرَى مَعَهَا) أي: مع { قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ } (وَكَانَ يَصْنَعُ ذَلِكَ) الَّذي ذكر من(13) الافتتاح بـ «الإخلاص» ثمَّ بسورةٍ معها (فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، فَكَلَّمَهُ أَصْحَابُهُ) لأنَّ فعله ذلك بخلاف ما يعهدونه (فَقَالُوا) بالفاء، ولأبوي ذَرٍّ والوقت: ”وقالوا“: (إِنَّكَ تَفْتَتِحُ بِهَذِهِ السُّورَةِ، ثُمَّ لَا تَرَى أَنَّهَا تُجْزِئُكَ) بضمِّ أوَّله مع الهمز كما في الفرع وأصله من الإجزاء، ويُروَى: ”تَجزيك“ بفتحه من جزى، أي: لا ترى أنَّها تكفيك (حَتَّى تَقْرَأَ بِأُخْرَى) ولأبي ذَرٍّ والأَصيليِّ: ”بالأخرى“ (فَإِمَّا أَنْ تَقْرَأَ بِهَا) ولغير أبي ذَرٍّ: ”فإمَّا تقرأ بها“ (وَإِمَّا أَنْ تَدَعَهَا) تتركها (وَتَقْرَأَ بِأُخْرَى) غير { قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ } (فَقَالَ) الرَّجل: (مَا أَنَا بِتَارِكِهَا، إِنْ أَحْبَبْتُمْ أَنْ أَؤُمَّكُمْ بِذَلِكَ فَعَلْتُ، وَإِنْ كَرِهْتُمْ تَرَكْتُكُمْ، وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ) وللأَصيليِّ: ”يرونه“ (مِنْ أَفْضَلِهِمْ، وَكَرِهُوا أَنْ يَؤُمَّهُمْ غَيْرُهُ) لكونه من أفضلهم، أو لكونه ╕ هو الَّذي قرَّره (فَلَمَّا أَتَاهُمُ النَّبِيُّ صلعم ؛ أَخْبَرُوهُ) هذا (الخَبَرَ) المذكور، فـ «ال» للعهد (فَقَالَ) له ╕ : (يَا فُلَانُ مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَفْعَلَ مَا يَأْمُرُكَ بِهِ) أي: الَّذي يقوله لك (أَصْحَابُكَ؟) من قراءة سورة «الإخلاص» فقط، أو غيرها فقط، وليس هذا أمرًا على الاصطلاح؛ لأنَّ الأمر هو قول القائل لغيره: افعل كذا على سبيل الاستعلاء، فالعاري عنه يُسمَّى التماسًا، وإنَّما جعله أمرًا هنا لأنَّه لازم التَّخيير المذكور، وكأنَّهم قالوا له: افعل كذا أو(14) كذا (وَمَا يَحْمِلُكَ) أي: وما الباعث لك (عَلَى لُزُومِ) قراءة (هَذِهِ السُّورَةِ) { قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ } (فِي كُلِّ رَكْعَةٍ؟) سأله عن أمرين (فَقَالَ) الرَّجل مجيبًا عن الثَّاني منهما: (إِنِّي أُحِبُّهَا) أي: أقرؤها لمحبَّتي إيَّاها؛ إذ لا يصحُّ أن يكون جوابًا عن الأوَّل لأنَّ محبَّتها لا تمنع أن يقرأ بها(15) فقط، وهم إنَّما خيَّروه بينها فقط(16) وغيرها فقط، لكنَّه(17) مستلزمٌ للأوَّل بانضمام شيءٍ آخر وهو إقامة(18) السُّنَّة المعهودة في(19) الصَّلاة بقراءة سورةٍ أخرى، فالمانع مُركَّبٌ من المحبَّة وعهد الصَّلاة (فَقَالَ) له ╕ : (حُبُّكَ إِيَّاهَا) أي: سورة «الإخلاص»، والحبُّ مصدرٌ مضافٌ لفاعله، وارتفاعه بالابتداء، والخبر قوله: (أَدْخَلَكَ الجَنَّةَ) لأنَّها صفة الرَّحمن تعالى، فحبُّها يدلُّ على حسن اعتقاده في الدِّين، وعبَّر بالماضي وإن كان دخول الجنَّة مستقبلًا لتحقُّق الوقوع.
          وفيه: جوازُ الجمع بين السُّورتين في ركعةٍ واحدةٍ، وهو مذهب أبي حنيفة ومالكٍ والشَّافعيِّ وأحمد، ورُوِي عن عثمان / وابن عمر(20) وحذيفة وغيرهم.


[1] في (د) و(م): «فقرأ».
[2] «الأولى»: ليس في (ب).
[3] في (د): «قاف».
[4] «بعين»: ليس في (م)، وفي (ص): «بسورةٍ غير»، وليس بصحيحٍ.
[5] في (ب) و(س): «يرتبط».
[6] «إن»: ليس في (ص) و(م).
[7] في غير (د): «انقطع»، وهو تحريفٌ.
[8] «جواز»: ليس في (م).
[9] في النسائي: بسورة الأعراف، وكذا في البيهقي.
[10] في (ص): «الرَّكعتين».
[11] في (د): «النَّبيُّ».
[12] في (د): «ولأبي الوقت»، والمثبت موافقٌ لِمَا في «اليونينيَّة».
[13] في (د): «في».
[14] في (ص) و(م): «و».
[15] في (م): «يقرأها».
[16] «فقط»: ليس في (م).
[17] في (ص): «لأنه».
[18] في (د): «وهو أنَّ».
[19] في غير (ص) و(م): «من».
[20] في (د): «وابن عمرو»، وهو تحريفٌ.