إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: من كان معه هدي فليهل بالحج والعمرة ثم لا يحل

          1638- وبالسَّند قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ) التِّنِّيسيُّ قال: (أَخْبَرَنَا مَالِكٌ) الإمام (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) محمَّد بن مسلمٍ(1) الزُّهريِّ(2) (عَنْ عُرْوَةَ) بن الزُّبير (عَنْ عَائِشَةَ ♦ ) قالت: (خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلعم فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ) سنة عشرٍ، وسُمِّيت بذلك لأنَّه ╕ ودَّع النَّاس فيها، ولم يحجَّ بعد الهجرة غيرها (فَأَهْلَلْنَا) أحرمنا (بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ قَالَ) ╕ : (مَنْ‼ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهِلَّ بِالحَجِّ وَالعُمْرَةِ، ثُمَّ لَا يَحِلَّ) بالنَّصب، ولغير أبي ذرٍّ: ”لا يحلُّ“ بالرَّفع (حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا) أي: من الحجِّ والعمرة لأنَّ القارن يعمل عملًا واحدًا كما سيأتي قريبًا إن شاء الله تعالى. قالت عائشة: (فَقَدِمْتُ مَكَّةَ، وَأَنَا حَائِضٌ، فَلَمَّا قَضَيْنَا حَجَّنَا(3)) أي: بعد أن طهرت وطفت (أَرْسَلَنِي مَعَ) أخي (عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِلَى التَّنْعِيمِ) أدنى الحلِّ إلى الحرم، وإنَّما أرسلها إلى التَّنعيم لأنَّ العمرة كالحجِّ، لا بدَّ أن يجمع فيها بين الحلِّ والحرم (فَاعْتَمَرْتُ، فَقَالَ صلعم : هَذِهِ) العمرة (مَكَانَ عُمْرَتِكِ) بنصب «مكانَ» على الظَّرفيَّة، أي: بدل عمرتك التي أردت أن تأتي بها مفردةً، لا أنَّها قضاءٌ عن التي كانت أحرمت بها (فَطَافَ الَّذِينَ أَهَلُّوا بِالعُمْرَةِ) وحدها متمتِّعين وسعوا (ثُمَّ حَلُّوا) لم يفرِّق بين من معه الهدي ومن ليس معه، وقال أبو حنيفة: من كان معه الهدي لا يحلُّ من عمرته، ويبقى على إحرامه حتَّى يحجَّ وينحر هديه يوم النَّحر (ثُمَّ طَافُوا طَوَافًا آخَرَ) للحجِّ (بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى، وَأَمَّا الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الحَجِّ وَالعُمْرَةِ) وهم الذين كان معهم الهدي (طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا) بغير فاءٍ في «طافوا» الذي هو جواب «أمَّا»، لكن صرَّح النُّحاة بلزوم إثباتها فيه نحو قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ}[البقرة:26] إلَّا في ضرورة الشَّعر كقوله:
فأمَّا القتالُ لا قتالَ لديكم                     ولكنَّ سيرًا في عِراض المواكبِ
          وأمَّا حذفها في(4) قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم}[آل عمران:106] فالأصل: فيُقال لهم: أكفرتم، فحذف القول استغناءً عنه(5) بالمقول، فتبعته الفاء في الحذف، ورُبَّ شيءٍ يصحُّ تبعًا ولا يصحُّ استقلالًا كالحاجِّ عن غيره يصلِّي عنه ركعتي الطَّواف، ولو صلَّى أحدٌ عن غيره ابتداءً(6) لم يصحَّ على الصَّحيح، قاله ابن هشامٍ. وتَلخَّص منه: أنَّ الفاء لا تُحذَف في غير الضَّرورة إلَّا مع القول، وعُورِض بأنَّه ثبت في «الصَّحيح» [خ¦2168]: أنَّه ╕ قال: «أمَّا بعد، ما بال رجالٍ يشترطون شروطًا؟» وأُجيب بأنَّه يجوز أن يكون هذا الحديث ممَّا حُذِف فيه الفاء تبعًا للقول، والتَّقدير: فأقول: ما بال رجالٍ؟ فالأَولى: النَّقض بما وقع هنا في حديث عائشة: وأمَّا الذين جمعوا بين الحجِّ والعمرة طافوا، وبقوله ╕ : [خ¦1555] «أمَّا موسى كأنِّي أنظر إليه إذ ينحدر في الوادي»، ولذا قال ابن مالكٍ في «التَّسهيل»: ولا بدَّ مع «أمَّا» من ذكر الفاء إلَّا في ضرورةٍ أو ندورٍ، وللكُشْمِيْهَنِيِّ: ”فإنَّما طافوا“ فأُتِي بالفاء قبل «إنَّما» في جواب «أمَّا»، وفي هذا الحديث دليلٌ على أنَّ القارن يجزيه طوافٌ واحدٌ، وهو مذهب مالكٍ والشَّافعيِّ وأحمد والجمهور، وكذا يجزيه سعيٌ واحدٌ، وقال أبو حنيفة في آخرين: عليه طوافان وسعيان، واستدلَّ لذلك في «فتح القدير»(7): بما رواه النَّسائيُّ‼ في «سننه الكبرى»(8) عن حمَّاد بن عبد الرَّحمن الأنصاريِّ، عن إبراهيم بن محمَّد ابن الحنفيَّة قال: طفت مع أبي وقد جمع الحجَّ والعمرة، فطاف لهما طوافين وسعى سعيين، وحدَّثني أنَّ عليًّا ☺ فعل ذلك. وحدَّثه أنَّ رسول الله صلعم فعل ذلك، قال العلَّامة ابن الهُمَام: وحمَّادٌ هذا وإن ضعَّفه الأزديُّ فقد ذكره ابن حبَّان في «الثِّقات»، فلا ينزل حديثه عن درجة الحسن، مع أنَّه روى عن عليٍّ بطرقٍ كثيرةٍ مُضعَّفةٍ ترتقي إلى الحسن، غير أنَّا تركناها واقتصرنا على ما هو الحجَّة بنفسه / بلا ضمٍّ، قال: ورواه الشَّافعيُّ بسندٍ فيه مجهولٌ، وقال: معناه: أنَّه يطوف بالبيت حين يقدم، وبالصَّفا والمروة، ثمَّ يطوف بالبيت للزِّيارة. انتهى. وهو صريحٌ في مخالفة النَّصِّ عن عليٍّ، وقول ابن المنذر: _ولو كان ثابتًا عن عليٍّ كان قول رسول الله صلعم أَولى: «من أحرم بالحجِّ والعمرة أجزأه عنهما طوافٌ واحدٌ وسعيٌ واحدٌ»_ مدفوعٌ(9) بأنَّ عليًّا رفعه إلى رسول الله صلعم كما أسمعناك، فوقعت المعارضة، وكانت هذه الرِّواية أقيس بأصول الشَّرع فرجحت، وقد استقرَّ في الشَّرع أنَّ من ضمَّ عبادةً إلى أخرى أنَّه يفعل أركان كلٍّ منهما، والله أعلم بحقيقة الحال. انتهى. ولا ريب أنَّ العمل بما في «صحيح البخاريِّ»(10) أَولى من حديثٍ لم يكن على رسم الصَّحيح على ما لا يخفى، وقد روى مسلمٌ من طريق أبي(11) الزُّبير: أنَّه سمع جابر بن عبد الله يقول: لم يطف النَّبيُّ صلعم ولا أصحابه بين الصَّفا والمروة إلَّا طوافًا واحدًا، ومن طريق طاوسٍ عن عائشة ♦ : أنَّه صلعم قال لها: «يسعك طوافك لحجِّك وعمرتك»، وهذا صريحٌ في الإجزاء وإن كان العلماء اختلفوا فيما كانت عائشة مُحرِمةً به، وقال عبد الرَّزَّاق عن سفيان الثَّوريِّ عن سلمة بن كُهَيْلٍ قال: حلف طاوسٌ؛ ما طاف أحدٌ من أصحاب النَّبيِّ صلعم لحجَّته وعمرته إلَّا طوافًا واحدًا، قال الحافظ ابن حجرٍ: وهذا إسنادٌ صحيحٌ.
          وحديث الباب مضى في «باب كيف تهلُّ الحائض والنُّفساء؟» [خ¦319] وموضع التَّرجمة منه قوله: «وأمَّا الذين جمعوا بين الحجِّ والعمرة» لأنَّه هو القارن.


[1] «محمَّد بن مسلمٍ»: ليس في (د).
[2] «الزُّهريِّ»: ليس في (ص) و(م).
[3] في (م): «الحجَّ».
[4] في (د) و(ص): «من».
[5] «عنه»: ليس في (ص).
[6] في (د): «ابتداءً عن غيره».
[7] في (ص): «التَّقدير»، وهو تحريفٌ، وفي (م): «الباري»، وليس بصحيحٍ.
[8] عزاه في الفتح لعبد الرزاق والدارقطني وغيرهما من طرق ضعيفة.
[9] في (د) و(ص): «مرفوعٌ»، ولعلَّه تحريفٌ.
[10] في (د): «العمل في البخاريِّ».
[11] (ب) و(س): «ابن»، وهو تحريفٌ.