إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: كان ذو المجاز وعكاظ متجر الناس

          1770- وبالسَّند قال: (حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ الهَيْثَمِ) بفتح الهاء وسكون التَّحتيَّة وفتح المُثلَّثة، المؤذِّن البصريُّ قال: (أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك المكِّيُّ (قَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ) بفتح العين: (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ☻ ) وفي رواية إسحاق بن رَاهُوْيَه في «مسنده» عن عيسى بن يونس عن ابن جريجٍ: أخبرني عمرو بن دينارٍ عن ابن عبَّاسٍ: (كَانَ ذُو المَجَازِ) بفتح الميم والجيم المُخفَّفة وبعد الألف زايٌ، وكانت بناحية عرفة إلى جانبها، وعند ابن الكلبيِّ _ممَّا ذكره الأزرقيُّ_: أنَّه كان لهُذَيلٍ على فرسخٍ من عرفة، وقول البرماويِّ _كالكِرمانيِّ_: موضعٌ بمنًى كان له(1) سوقٌ في الجاهليَّة، ردَّه الحافظ ابن حجرٍ بما رواه الطَّبريُّ(2) عن مجاهدٍ: أنَّهم كانوا لا يبيعون ولا يبتاعون(3) بعرفة ولا منًى، لكن روى الحاكم في «مستدركه» من حديث ابن عبَّاسٍ: أنَّ النَّاس في أوَّل الحجِّ كانوا يتبايعون بمنًى وعرفة وسوق ذي المجاز ومواسم الحجِّ، فخافوا البيع وهم حرمٌ، فأنزل الله تعالى: فـ {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ}. انتهى. (وَعُكَاظٌ) بضمِّ العين المهملة وتخفيف الكاف وبعد الألف ظاءٌ معجمةٌ(4) كـ «غُرَابٍ»، قال الرُّشاطيُّ: وهي صحراء مستويةٌ لا عَلَم فيها ولا جبلٌ إلَّا ما كان من الأنصاب التي كانت بها في الجاهليَّة، وعن ابن إسحاق: أنَّها فيما بين نخلة والطَّائف إلى بلدٍ يُقال له: الفُتُق؛ بضمِّ الفاء والفوقيَّة بعدها قافٌ، وعن ابن الكلبيِّ: أنَّها كانت وراء قرن المنازل بمرحلةٍ على طريق صنعاء، وكانت لقيسٍ وثقيفٍ (مَتْجَرَ النَّاسِ) بفتح الميم والجيم بينهما مُثنَّاةٌ فوقيَّةٌ، أي: مكان تجارتهم (فِي الجَاهِلِيَّةِ) وفي رواية ابن عُيَيْنَة [خ¦2050]: أسواقًا في الجاهليَّة (فَلَمَّا جَاءَ الإِسْلَامُ كَأَنَّهُمْ) أي: المسلمين (كَرِهُوا ذَلِكَ) قال في «المصابيح»: فإن قلت: أتى جواب «لمَّا» هنا جملةً اسميَّةً، وإنَّما أجازوه إذا كانت‼ مُصدَّرةً بـ «إذا» الفجائيَّة، وزاد ابن مالكٍ: جواز وقوعها جوابًا إذا تصدَّرت بالفاء؛ نحو: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ}[لقمان:32] والفرض: أن ليس هنا «إذا» ولا الفاء، وأجاب بأنَّ الجواب محذوفٌ لدلالة الجملة / الواقعة بعده عليه، أي: فلمَّا جاء الإسلام تركوا التِّجارة فيها كأنَّهم كرهوا ذلك. انتهى. وقال الزَّمخشريُّ: وكان ناسٌ من العرب يتأثَّمون أن يتَّجروا أيَّام الحجِّ، وإذا دخل العشر كفُّوا عن البيع والشِّراء، فلم يقم(5) لهم سوقٌ، ويسمُّون من يخرج بالتِّجارة: الدَّاجَّ، ويقولون: هؤلاء الدَّاجُّ، وليسوا بالحاجِّ، وفي رواية ابن عُيَيْنَة [خ¦2050]: «كأنَّهم تأثَّموا» أي(6): خافوا الوقوع في الإثم للاشتغال في أيَّام النُّسك بغير العبادة (حَتَّى نَزَلَتْ) آية ({لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ}) في ({أَن تَبْتَغُواْ}) أي(7): تطلبوا ({فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ}[البقرة:198]) عطاءً ورزقًا منه؛ يريد: الرِّبح بالتِّجارة، زاد أبيٌّ في قراءته: (▬فِي مَوَاسِمِ الحَجِّ↨) الجارُّ متعلِّقٌ بـ «جناحٌ»، والمعنى: أنَّ الجُنَاح منتفٍ، ويبعد(8) تعلُّقه بـ «ليس» لأنَّه لم يُرِد أن ينفي الجُناح مطلقًا، ويجعل ابتغاء(9) التِّجارة ظرفًا(10) للنَّفي، فيبعد(11) لهذا أن يكون متعلِّقًا به(12)، وقد كان أهل الجاهليَّة يصبحون بعكاظٍ يوم هلال ذي القعدة، ثمَّ يذهبون منه إلى مجنَّة بعد مضيِّ عشرين يومًا من ذي القعدة، فإذا رأوا هلال ذي الحجَّة ذهبوا من مجنَّة إلى ذي المجاز فلبثوا به(13) ثمان ليالٍ، ثمَّ يذهبون إلى عرفة، ولم تزل هذه الأسواق قائمةً في الإسلام إلى أن كان أوَّل ما تُرِك منها سوق عكاظٍ في زمن الخوارج سنة تسعٍ وعشرين ومئةٍ، لمَّا خرج الحروريُّ بمكَّة مع أبي حمزة المختار بن عوفٍ خاف النَّاس أن يُنتهَبوا وخافوا الفتنة، فتُرِكت إلى الآن، ثمَّ تُرِكَ(14) مجنَّة وذو المجاز بعد ذلك، واستغنوا بالأسواق بمكَّة ومنًى وعرفة، وآخر ما تُرِك سوق حُبَاشة في زمن داود بن عيسى بن موسى العباسيِّ في سنة سبعٍ وتسعين ومئةٍ.


[1] في (د): «به».
[2] في (ج): «الطبراني».
[3] في (د) و(م): «يتبايعون».
[4] «معجمةٌ»: ليس في (د).
[5] في (د) و(م): «تقم».
[6] «أي»: ليس في (د).
[7] «أي»: ليس في (ب).
[8] في (د): «وبعيدٌ».
[9] في (ب): «انتفاء»، ولعلَّ المثبت هو الصَّواب.
[10] في (د): «طريقًا»، ولعلَّه تحريفٌ.
[11] في (د): «فبعيدٌ».
[12] قوله: «الجارُّ مُتعلِّقٌ بـ: جناحٌ، والمعنى... لهذا أن يكون متعلِّقًا به»: ليس في (م).
[13] في (د): «فيه».
[14] في (د): «تُرِكت».