إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: قد سن رسول الله الطواف بينهما فليس لأحد أن يترك الطواف

          1643- وبالسَّند قال: (حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ) الحكم بن نافعٍ قال: (أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ) هو ابن أبي حمزة (عَنِ) ابن شهابٍ (الزُّهْرِيِّ، قَالَ عُرْوَةُ) بن الزُّبير بن العوَّام: (سَأَلْتُ عَائِشَةَ ♦ فَقُلْتُ لَهَا: أَرَأَيْتِ قَوْلَ اللهِ تَعَالَى) أي: أخبريني عن مفهوم قول الله تعالى: ({إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ}) جبلا السَّعي اللذان يُسعَى من أحدهما إلى الآخر، و«الصَّفا» في الأصل: جمع صفاةٍ؛ وهي الصَّخرة والحجر الأملس، و«المروة» في الأصل: حجرٌ أبيض برَّاقٌ ({مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ}) فلا إثم عليه ({أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا}[البقرة:158]) بتشديد الطَّاء، أصله: أن(1) يتطوَّف، فأُبدِلت التَّاء طاءً لقرب مخرجهما، وأُدغِمت(2) الطَّاء في الطَّاء (فَوَاللهِ مَا عَلَى أَحَدٍ جُنَاحٌ أَلَّا يَطُوفَ) كذا في «اليونينيَّة»(3) / (بِالصَّفَا وَالمَرْوَةِ) إذ مفهومها: أنَّ السَّعي ليس بواجبٍ لأنَّها دلَّت على رفع الجناح؛ وهو الإثم عن فاعله، وذلك يدلُّ على إباحته، ولو كان واجبًا لمَا قِيل فيه مثل هذا، فردَّت عليه عائشة ♦ حيث (قَالَتْ: بِئْسَ مَا قُلْتَ يَا ابْنَ أُخْتِي) أسماء (إِنَّ هَذِهِ) الآية (لَوْ كَانَتْ كَمَا أَوَّلْتَهَا عَلَيْهِ) من الإباحة (كَانَتْ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَلَّا يَتَطَوَّفَ بِهِمَا) كذا بزيادة فوقيَّةٍ بعد التَّحتيَّة، و(4) بزيادة «لا» بعد «أنْ»، وبه قُرِئ في الشَّاذِّ _كما قالت عائشة_ فإنَّها كانت حينئذٍ تدلُّ على رفع الإثم عن تاركه، وذلك حقيقة المباح، فلم يكن في الآية نصٌّ على الوجوب ولا عدمه، ثمَّ بيَّنت عائشة أنَّ الاقتصار في الآية على نفي الإثم له سببٌ خاصٌّ، فقالت: (وَلَكِنَّهَا) أي: الآية (أُنْزِلَتْ فِي الأَنْصَارِ) الأوس والخزرج (كَانُوا قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا يُهِلُّونَ) يحجُّون (لِمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ) بميمٍ مفتوحةٍ فنونٍ مُخفَّفةٍ مجرورٌ بالفتحة للعلميَّة والتَّأنيث، وسُمِّيت «مناة» لأنَّ النَّسائك كانت تُمنَى، أي: تُراق عندها، وهي اسم صنمٍ كان في الجاهليَّة، و«الطَّاغية»: صفةٌ إسلاميَّةٌ لـ «مناة» (الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا عِنْدَ المُشَلَّلِ) بميمٍ مضمومةٍ فشينٍ معجمةٍ مفتوحةٍ فلامَيْنِ؛ الأولى مُشدَّدةٌ مفتوحةٌ: ثنيَّةٌ مشرفةٌ على قُدَيدٍ، زاد سفيان عن الزُّهريِّ: «بالمُشَلَّل من قُدَيدٍ» أخرجه مسلمٌ، وكان لغيرهم صنمان: بالصَّفا: إِسَافٌ _بكسر الهمزة وتخفيف السِّين المهملة_ وبالمروة: نائلة _بالنُّون والهمزة والمدِّ_ وقِيلَ: إنَّهما كانا رجلًا‼ وامرأةً فزنيا داخل الكعبة فمسخهما الله حجرين فنُصِبا عند الكعبة، وقِيلَ: على الصَّفا والمروة ليعتبر النَّاس بهما ويتَّعظوا، ثمَّ حوَّلهما قصيُّ بن كلابٍ فجعل أحدهما ملاصق الكعبة والآخر لزمزم، ونحر عندهما وأمر بعبادتهما، فلمَّا فتح النَّبيُّ صلعم مكَّة كسرهما (فَكَانَ مَنْ أَهَلَّ) من الأنصار (يَتَحَرَّجُ) أي: يحترز(5) من الإثم (أَنْ يَطُوفَ بِالصَّفَا وَالمَرْوَةِ) كراهيةً لذينك الصَّنمين وحبَّهم صنمهم الذي بالمُشَلَّل، وكان ذلك سنَّةً في آبائهم، من أحرم لمناة لم يطف بين الصَّفا والمروة (فَلَمَّا أَسْلَمُوا) أي: الأنصار (سَأَلُوا رَسُولَ اللهِ صلعم عَنْ ذَلِكَ) أي: عن الطَّواف بهما، وسقط لأبي ذرٍّ لفظ «أسلموا» (قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّا كُنَّا نَتَحَرَّجُ أَنْ نَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ) ولأبي ذرٍّ: ”بالصَّفا والمروة“ (فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ}...الآية[البقرة:158]) إلى آخرها، فقد تبيَّن(6) أنَّ الحكمة في التَّعبير بذلك في الآية: مطابقة جواب السَّائلين لأنَّهم توهَّموا من كونهم كانوا يفعلون ذلك في الجاهليَّة أنَّه يستمرُّ في الإسلام، فخرج الجواب مطابقًا لسؤالهم، وأمَّا الوجوب فيُستفاد من دليلٍ آخر، وقد يكون الفعل واجبًا ويعتقد المعتقد أنَّه منع من إيقاعه على صفةٍ مخصوصةٍ كمن عليه صلاة ظهرٍ مثلًا فظنَّ أنَّه لا يجوز فعلها عند الغروب، فسأل فقِيلَ في جوابه: لا جناح عليك إنْ صلَّيتها في هذا الوقت، فالجواب صحيحٌ ولا يستلزم ذلك الوجوب، ولا يلزم من نفي الإثم عن الفاعل نفي الإثم عن التَّارك، فلو كان المراد مطلق الإباحة لنُفِيَ الإثم عن التَّارك.
          (قَالَتْ عَائِشَةُ ♦ : وَقَدْ سَنَّ) أي: فرض (رَسُولُ اللهِ صلعم الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا) أي(7): بين الصَّفا والمروة بالسُّنَّة، وليس المراد نفي فرضيَّتهما، ويؤيِّده ما في «مسلمٍ» من حديثها(8): «ولعمري ما أتمَّ الله حجَّ من لم يطف بين الصَّفا والمروة» واستدلَّ البيهقيُّ وابن عبد البرِّ والنَّوويُّ وغيرهم على ذلك أيضًا بكونه ╕ كان يسعى بينهما في حجِّه(9) وعمرته، وقال: «خذوا عنِّي مناسككم» (فَلَيْسَ لأَحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا) وهو ركنٌ عند الشَّافعيَّة والمالكيَّة والحنابلة. وقال الحنفيَّة: واجبٌ يصحُّ الحجُّ بدونه ويُجبَر بدمٍ، قال الزُّهريُّ: (ثُمَّ أَخْبَرْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن الحارث بن هشامٍ بذلك (فَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَعِلْمٌ) بفتح اللَّام وهي المؤكِّدة، وبالتَّنوين على أنَّه الخبر، وللحَمُّويي والمُستملي: ”إنَّ هذا العلمَ“ بالنَّصب، صفةٌ لـ «هذا» أي: إنَّ هذا هو العلم (مَا كُنْتُ سَمِعْتُهُ) خبرٌ لـ «إنَّ»، و«كنت»: بلفظ المتكلِّم، و«ما» نافيةٌ، وعلى الرِّواية الأولى _وهي للكُشْمِيْهَنِيِّ_ «لعلمٌ»: خبر «إنَّ»، وكلمة «ما»: موصولةٌ، ولفظ: ”كنتُ“ للمتكلِّم في جميع ما وقفت عليه من الأصول، وقال العينيُّ كالكِرمانيِّ: ولفظ: ”كنتَ“ / للمخاطب على النُّسخة الأولى، وهي «لَعِلْمٌ».
          قال أبو بكرٍ: (وَلَقَدْ سَمِعْتُ رِجَالًا مِنْ‼ أَهْلِ العِلْمِ، يَذْكُرُونَ أَنَّ النَّاسَ إِلَّا مَنْ ذَكَرَتْ عَائِشَةُ) ♦ ، والاستثناء معترضٌ بين اسم «أنَّ» وخبرها، وهو قوله: (مِمَّنْ كَانَ يُهِلُّ بِمَنَاةَ) بالباء المُوحَّدة (كَانُوا يَطُوفُونَ كُلُّهُمْ بِالصَّفَا وَالمَرْوَةِ) فلم يخصُّوا بطائفةٍ بخلاف عائشة، فإنَّها خصَّت الأنصار بذلك كما رواه الزُّهريُّ عن عروة عنها (فَلَمَّا ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى الطَّوَافَ بِالبَيْتِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ فِي القُرْآنِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ كُنَّا نَطُوفُ بِالصَّفَا وَالمَرْوَةِ) أي: في الجاهليَّة (وَإِنَّ اللهَ) بالواو، ولأبي الوقت: ”فإنَّ الله ╡“ (أَنْزَلَ الطَّوَافَ بِالبَيْتِ، فَلَمْ يَذْكُرِ الصَّفَا) أي: والمروة (فَهَلْ عَلَيْنَا مِنْ حَرَجٍ) إثمٍ (أَنْ نَطَّوَّفَ) بتشديد الطَّاء (بِالصَّفَا وَالمَرْوَةِ؟) إنَّما سألوا عن ذلك بناءً على ما ظنُّوه من أنَّ التَّطوُّف بهما(10) من فعل الجاهليَّة (فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ}...الآية[البقرة:158] قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَأَسْمَعُ) بفتح الهمزة والميم وضمِّ العين على صيغة المتكلِّم من المضارع، وضبطها الدِّمياطيُّ الحافظ: ”فاسمعْ“ بوصل الهمزة وسكون(11) العين على صيغة الأمر، قال في «الفتح»: والأوَّل أصوب (هَذِهِ الآيَةَ) {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} (نَزَلَتْ فِي الفَرِيقَيْنِ) الأنصارِ وقومٍ من العرب كما في «مسلمٍ» (كِلَيْهِمَا) قال العينيُّ والبرماويُّ كالكِرمانيِّ: كلاهما، وهو على لغة من يلزمها الألف دائمًا (فِي الَّذِينَ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَطُوفُوا)(12) وفي نسخةٍ: ”أن يتطوَّفوا“ بالتَّاء(13) (في الجَاهِلِيَّةِ(14) بِالصَّفَا وَالمَرْوَةِ) لكونه عندهم من أفعال الجاهليَّة (وَالَّذِينَ يَطُوفُونَ، ثُمَّ تَحَرَّجُوا أَنْ يَطُوفُوا بِهِمَا فِي الإِسْلَامِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالطَّوَافِ بِالبَيْتِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الصَّفَا) أي: ولا المروة (حَتَّى ذَكَرَ ذَلِكَ) أي: الطَّواف بالصَّفا والمروة في قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} (بَعْدَ مَا ذَكَرَ الطَّوَافَ بِالبَيْتِ) في قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}[الحج:29] والمراد: تأخُّر نزول آية «البقرة» في الصَّفا والمروة عن آية «الحجِّ»: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}(15)، قال في «الفتح»(16): ووقع في رواية المُستملي وغيره: ”حتَّى ذَكَرَ بعد ذلك ما ذَكَرَ الطَّواف بالبيت“ قال الحافظ ابن حجرٍ: وفي توجيهه عسرٌ، قال العينيُّ: لا عسر فيه، فقد وجَّهه الكِرمانيُّ فقال: لفظة(17): «ما ذكر» بدلٌ من(18) «ذلك»، أو أنَّ «ما» مصدريَّةٌ والكاف مُقدَّرةٌ كما في: زيدٌ أسدٌ، أي: ذكر السَّعي بعد ذكر الطَّواف كذكر الطَّواف واضحًا جليًّا ومشروعًا مأمورًا به.


[1] «أن»: ليس في (د) و(س).
[2] في (د): «وأُدخِلت».
[3] «كذا في اليونينيَّة»: ليس في (م).
[4] «كذا بزيادة فوقيَّةٍ بعد التَّحتيَّة، و»: سقط من (د) و(م).
[5] في (د): «يتحرَّز».
[6] في (د): «بيَّن».
[7] «أي»: ليس في (د).
[8] في (ص): «حديثهما».
[9] في (د): «حجَّته».
[10] في (ص) و(م): «بينهما».
[11] في (د): «وبسكون».
[12] زيد في (د): «في الجاهليَّة»، وكذا في (ج).
[13] «بالتَّاء»: مثبتٌ من (ب) و(س).
[14] في (د): «بالجاهليَّة»، وكذا في «اليونينيَّة».
[15] قوله: «والمراد: تأخُّر نزول آية البقرة... { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ }» ليس في (ص).
[16] في (د) و(م): «وفي الفتح».
[17] في (د): «لفظ».
[18] في (د): «عن».