إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: أن النبي لما جاء إلى مكة دخل من أعلاها وخرج من أسفلها

          1577- وبه قال: (حَدَّثَنَا الحُمَيْدِيُّ) أبو بكرٍ عبدالله بن الزُّبير المكِّيُّ (وَمُحَمَّدُ بْنُ المُثَنَّى) العَنَزِيُّ الزَّمِن البصريُّ (قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ) عروة بن الزُّبير بن العوَّام (عَنْ عَائِشَةَ ♦ : أَنَّ النَّبِيَّ صلعم لَمَّا جَاءَ إِلَى مَكَّةَ دَخَلَ مِنْ أَعْلَاهَا) بغير ضمير النَّصب، ولأبوي ذَرٍّ والوقت: ”دخلها من أعلاها“ (وَخَرَجَ مِنْ أَسْفَلِهَا).
          وهذا الحديث أخرجه المؤلِّف أيضًا في «المغازي» [خ¦4290] عن غير(1) الحميديِّ وابن المُثنَّى، ومسلمٌ في «الحجِّ» عن ثانيهما وابن أبي عمر، وأبو داود والتِّرمذيُّ والنَّسائيُّ.
          1578- وبه قال: (حَدَّثَنَا) بالجمع، ولأبي ذرٍّ: ”حدَّثني“ (مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ) بفتح الغين المعجمة وسكون المُثنَّاة التَّحتيَّة، وسقط لأبي ذرٍّ «ابن غيلان»، ولغير أبي ذرٍّ(2): ”المَرْوَزِيُّ“ قال: (حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ) حمَّاد بن أسامة(3) قال: (حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ) بن الزُّبير (عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ ♦ : أَنَّ النَّبِيَّ صلعم دَخَلَ عَامَ الفَتْحِ مِنْ) ثنيَّة (كَدَاءٍ) بالفتح والمدِّ والتَّنوين (وَخَرَجَ مِنْ) ثنيَّة (كُدًا) بالضَّمِّ مقصورًا مُنوَّنًا على المشهور فيهما خلافًا لما وقع للرَّافعيِّ في «شرح الوجيز»: أنَّ الذي يشعر به‼ كلام الأكثرين أنَّ الثَّاني بالمدِّ أيضًا، قال: ويدلُّ عليه أنَّهم كتبوها بالألف، وردَّه النَّوويُّ بأنَّ كتابتها بالألف لا تدلُّ على المدِّ، وضبط الحافظ الدِّمياطيُّ الأولى: بضمِّ الكاف مع القصر غير مُنوَّنٍ، والثَّانية: بفتح الكاف والتَّنوين مع المدِّ، وقال: هكذا هو مضبوطٌ؛ يعني: في هذا الموضع، فأشعر أنَّ المُعتمَد خلاف ما وقع، ويؤيِّده قول النَّوويِّ: إنَّه غلطٌ، قال: وأمَّا كُديٌّ _بضمِّ الكاف وتشديد الياء_ فهي في طريق الخارج إلى اليمن، وليست من هذين(4) الطَّريقين في شيءٍ. انتهى. وفي «القاموس»: والكِدَاء كـ «كِساءٍ»: المنعُ والقطعُ / ، وكـ «سماءٍ»: اسم عرفاتٍ، أو جبلٌ بأعلى مكَّة، ودخل النَّبيُّ صلعم مكَّة منه، وكـ «سُمَيٍّ»: جبلٌ أسفلها، وخرج منه ╕ ، أو جبلٌ(5) آخر قرب عرفة، وكـ «قُرًى»: جبلٌ مَسْفَلَةَ مكَّة على طريق اليمن، و«كَدًى» مقصورةٌ(6) كـ «فتًى»: ثنيَّةُ الطَّائف، وغلط المتأخِّرون في هذا التَّفصيل، واختلفوا فيه على أكثر من ثلاثين قولًا (مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ) استُشكِل هذا من جهة أنَّ مفهومه أنَّه ╕ خرج من أعلى مكَّة، والأحاديث السَّابقة أنَّه خرج من أسفلها، وأجاب الكِرمانيُّ فقال: لعلَّ الدُّخول والخروج في عام الفتح كان كلاهما من أعلاها، فأمَّا في الحجِّ فكان الخروج من أسفلها، هذا إذا كان «كَدًا» أوَّلًا وثانيًا(7) بفتح الكاف، وأمَّا إن كان الثَّاني _بضمِّها_ فوجهه أن يُقال: إنَّ «من أعلى مكَّة» متعلِّقٌ بـ «دخل»، ولفظ: «وخرج من كُدًا» حالٌ مُقدَّرٌة بينهما، فلا يحتاج إلى التَّخصيص بغير عام الفتح. انتهى. والذي في الأصول المعتمدة ضبط الأوَّل: بالفتح، والثَّاني: بالضَّمِّ، ولا أعلم أنَّهما رُوِيا بالفتح، والتَّوجيه الثَّاني الذي ذكره لا يخفى ما فيه من التَّكلُّف، والذي يظهر ما قاله الحافظ أبو الفضل بن حجرٍ ☼ : إنَّه رُوِيَ كذا مقلوبًا في رواية أبي أسامة، وإنَّ الصَّواب ما رواه غيره [خ¦1580]: «دخل من كَدَاءٍ من أعلى مكَّة» وإنَّ الوهم فيه ممَّن دون أبي أسامة لأنَّ أحمد رواه عن أبي أسامة على الصَّواب، المشهور أنَّه دخل من كَدَاءٍ _بالفتح والمدِّ_ وخرج من كُدًا بالضَّمِّ والقصر، نعم وقع في رواية أبي داود: أنَّه دخل عام الفتح من كَدَاءٍ _بالفتح_ ودخل في العمرة من كُدًا، أي: بالقصر.
          1579- وبه قال: (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ) يحتمل أن يكون هو ابن عيسى التُّستريُّ المصريُّ كما في أوائل «الحجِّ» [خ¦1514] وقال أبو عليِّ بن السَّكن عن الفَـِرَبْريِّ: هو في المواضع كلِّها أحمد بن صالحٍ المصريُّ، وكذا قال أبو عبد الله بن منده، وليس هو ابن أخي ابن وهبٍ لأنَّ المؤلِّف لم يُخرِج عنه شيئًا، قال: (حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ) عبد الله المصريُّ قال: (أَخْبَرَنَا عَمْرٌو) بفتح العين ابن الحارث المصريُّ (عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ) عروة بن الزُّبير (عَنْ عَائِشَةَ) أمِّ المؤمنين(8) ( ♦ : أَنَّ النَّبِيَّ صلعم دَخَلَ عَامَ الفَتْحِ) مكَّة (مِنْ كَدَاءٍ) بفتح الكاف والمدِّ والتَّنوين (أَعْلَى مَكَّةَ).
          وبالإسناد السَّابق (قَالَ هِشَامٌ: وَكَانَ عُرْوَةُ) أبوه (يَدْخُلُ عَلَى) ولأبي ذرٍّ: ”من“ (كِلْتَيْهِمَا) بكسر الكاف وسكون اللَّام والمُثنَّاة التَّحتيَّة، بينهما مُثنَّاةٌ فوقيَّةٌ مفتوحةٌ، والضَّمير يرجع‼ إلى الثَّنيَّتين العليا والسُّفلى (مِنْ كَدَاءٍ) بالفتح والمدِّ والتَّنوين (وَكُدًا) بالضَّمِّ والقصر والتَّنوين، بيانٌ لقوله: «كلتيهما» (وَأَكْثَرُ مَا يَدْخُلُ) عروة (مِنْ كَدَاءٍ) بالفتح والمدِّ، ولأبوي ذرِّ والوقت _كما في «اليونينيَّة»_: ”كُدًا“ بضمِّ الكاف والقصر(9) مع التَّنوين، وقال الحافظ ابن حجرٍ: إنَّه بالضَّمِّ والقصر للجميع، وعزاه في «المصابيح» _كـ «التَّنقيح»_ للأَصيليِّ، والفتح والمدُّ لغيره، وفي بعض النُّسخ: ”كُدَا“ بالضَّمِّ والقصر من غير تنوينٍ (وَكَانَتْ) أي: الثنيَّة العليا، وفي فرع «اليونينيَّة»(10) وأصولٍ مُعتمَدةٍ: ”وكان“ (أَقْرَبَهُمَا) بالنَّصب خبر «كان»، وفي بعض النُّسخ: ”أقرب“ أي: أقرب الثَّنيَّتين (إِلَى مَنْزِلِهِ) اعتذارٌ لأبيه عروة على رواية الضَّمِّ لأنَّه روى الحديث: أنَّه صلعم كان يدخل من كَداءٍ؛ بالفتح والمدِّ، وخالفه؛ لأنَّه رأى أنَّ(11) ذلك ليس بلازمٍ حتمٍ فلذلك كان يسوِّي بينهما في الدُّخول، ويكثر من الدُّخول من الأخرى لكونها أقرب إلى منزله.
          وهذا الحديث أخرجه المؤلِّف أيضًا في «المغازي» [خ¦4290].
          1580- وبه قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الوَهَّابِ) الحجبيُّ(12) البصريُّ قال: (حَدَّثَنَا حَاتِمٌ) بالحاء المهملة والمُثنَّاة الفوقيَّة المكسورة ابن إسماعيل الكوفيُّ، سكن المدينة (عَنْ هِشَامٍ، عَنْ) أبيه (عُرْوَةَ: دَخَلَ النَّبِيُّ صلعم ) مكة (عَامَ الفَتْحِ مِنْ كَدَاءٍ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ، وَكَانَ عُرْوَةُ أَكْثَرَ مَا يَدْخُلُ مِنْ كَدَاءٍ) بفتح الكاف والمدِّ والتَّنوين في الأوَّل والثَّاني، قال النَّوويُّ: وأكثر دخول عروة من كَداءٍ؛ بالمدِّ. انتهى. ولأبوي ذَرٍّ والوقت: ”من كُدَى“ بالضَّمِّ والقصر من غير تنوين، وقال الحافظ ابن حجرٍ: إنَّه كذلك للجميع (وَكَانَ أَقْرَبَهُمَا إِلَى مَنْزِلِهِ) وهذا الحديث _كما قاله الحافظ في «الفتح»_ اختُلِف في وصله وإرساله على(13) / هشام بن عروة، وأورد البخاريُّ الوجهين مشيرًا إلى أنَّ رواية الإرسال لا تقدح في رواية الوصل لأنَّ الذي وصله حافظٌ وهو ابن عُيَيْنَة، وقد تابعه ثقتان _يعني: عَمْرًا وحاتمًا المذكورين_ ثمَّ أورد المؤلِّف طريقًا آخر(14) من مراسيل عروة، فقال بالسَّند السَّابق أوَّل هذا الكتاب إليه:
          1581- (حَدَّثَنَا مُوسَى) بن إسماعيل المنقريُّ قال: (حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ) بضمِّ الواو وفتح الهاء ابن خالدٍ قال: (حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ) عروة أنَّه قال: (دَخَلَ النَّبِيُّ صلعم ) مكَّة (عَامَ الفَتْحِ مِنْ كَدَاءٍ) بالفتح والمدِّ مُنوَّنًا (وَكَانَ عُرْوَةُ يَدْخُلُ مِنْهُمَا) أي: من «كَداءٍ» _بالفتح_ و«كُدًى» _بالضَّمِّ_ (كِلَيْهِمَا) بكافٍ مكسورةٍ ولامٍ مفتوحةٍ فمُثنَّاةٍ تحتيَّةٍ، وللأَصيليِّ: ”كلاهما“ بالألف على لغة من أعربه بالحركات المُقدَّرة في الأحوال الثَّلاث (وَأَكْثَرُ) بالرَّفع، ولأبي ذرٍّ: ”وكان أكثرَ“ ؛ بالنَّصب، خبر «كان» الزَّائدة عنده (مَا يَدْخُلُ) وفي بعض النُّسخ: ”وأكثر ما كان يدخل“ (مِنْ كَدَاءٍ) بالفتح والمدِّ والتَّنوين، ولأبي ذرٍّ: ”كُدَا“ (15) بالضَّمِّ والقصر من غير تنوينٍ، قال الحافظ ابن حجرٍ‼: إنَّها كذلك للجميع (أَقْرَبِهِمَا إِلَى مَنْزِلِهِ) بجرِّ «أقرب»: بيانٌ أو بدلٌ من «كداءٍ»، والأرجح أنَّ دخوله صلعم من أعلى مكَّة وخروجه من أسفلها كان قصدًا ليُتأسَّى به فيه، فيكون سنَّةً لكلِّ داخلٍ، وحينئذٍ فالآتي من غير طريق المدينة يُؤمَر بالتَّعريج إليها ليدخل منها، وهذا ما صحَّحه النَّوويُّ في «الرَّوضة» و«المجموع» لمَا قاله الشَّيخ أبو محمَّدٍ الجوينيُّ: إنَّه صلعم عرَّج إليها قصدًا، وحكى الرَّافعيُّ عن الأصحاب تخصيصه بالآتي من طريق المدينة للمشقَّة، وأنَّ دخوله صلعم منها كان اتِّفاقًا.
          (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ) البخاريُّ: (كَدَاءٌ وَكُدًا) بالفتح والمدِّ والتَّنوين في الأوَّل، والضَّمِّ والقصر والتَّنوين في الثاني(16)، وفي نسخةٍ: ”بتركه“ (مَوْضِعَانِ) كذا ثبت هذا القول للمُستملي، وسقط لغيره، وهو أَولى لأنَّه ليس في سياقه كبير فائدةٍ كما لا يخفى.


[1] «غير»: سقط من النُّسخ جميعها.
[2] «ولغير أبي ذرٍّ»: ليس في (م).
[3] في غير (ب) و(س): «زيد»، وليس بصحيحٍ. وفي (ج): «حماد بن زَيد».
[4] في غير (ب) و(س): «هذه».
[5] قوله: «بأعلى مكَّة، ودخل النَّبيُّ صلعم مكَّة منه... الصَّلاة والسَّلام، أو جبلٌ »، ليس في (ص).
[6] في (ص) و(م): «منقوصةٌ».
[7] «وثانيًا»: مثبتٌ من (د).
[8] «أمِّ المؤمنين»: مثبتٌ في (د).
[9] في (د): «والتَّصغير»، وليس بصحيحٍ.
[10] في (م): «لليونينيَّة».
[11] «أنَّ»: ليس في (د).
[12] في (د) و(م) و(ج): «الجمحيُّ»، ولعلَّ المثبت هو الصَّواب.
[13] في (ص): «عن».
[14] في (د): «أخرى».
[15] في (د): «وكَداء».
[16] «في الثَّاني»: مثبتٌ من (ب) و(س).