إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: لا يلبس القمص ولا العمائم ولا السراويلات

          1542- وبالسَّند قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ) التِّنِّيسيُّ قال‼: (أَخْبَرَنَا مَالِكٌ) الإمام (عَنْ نَافِعٍ) مولى ابن عمر (عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ) بن الخطَّاب / ( ☻ : أَنَّ رَجُلًا) قال الحافظ ابن حجرٍ: لم أقف على اسمه (قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا يَلْبَسُ) الرَّجل (المُحْرِمُ) قارنًا أو مفردًا أو متمتِّعًا (مِنَ الثِّيَابِ؟) وعند البيهقيِّ: أنَّ ذلك وقع والنَّبيُّ صلعم يخطب في مُقدَّم مسجد المدينة، وفي حديث ابن عبَّاسٍ عند المؤلِّف في أواخر «الحجِّ» [خ¦1843]: أنَّه ╕ خطب بذلك في عرفاتٍ، فيُحمَل على التَّعدُّد (قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم ) مجيبًا له: (لَا يَلْبَسُِ القُمُصَ) بضمِّ القاف والميم بالجمع، و«يلبسُ» بالرَّفع، وهو الأشهر على الخبر عن حكم الله؛ إذ هو جواب السُّؤال، أو خبرٌ بمعنى النَّهي، وبالجزم على النَّهي، وكُسِر لالتقاء السَّاكنين، فإن قلت: السُّؤال وقع عمَّا يجوز لبسه، والجواب وقع عمَّا لا يجوز لبسه، فما الحكمة فيه؟ أُجيب بأنَّ الجواب بما لا يجوز لبسه أحصر وأخصر ممَّا يجوز، فَذِكْرُه أَوْلى؛ إذ هو قليلٌ، ويُفهَم منه ما يُباح، فتحصل المطابقة بين الجواب والسُّؤال بالمفهوم، وقِيلَ: كان الأليق السُّؤال عن الذي لا يُباح، إذ الإباحة الأصل ولذا أجاب بذلك تنبيهًا للسَّائل على الأليق، ويُسمَّى مِثلُ ذلك: أسلوب الحكيم؛ نحو: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ}... الآية[البقرة:189] فإنَّهم سألوا عن حكمة اختلاف القمر؛ حيث قالوا: ما بال الهلال يبدو دقيقًا ثمَّ يزيد ثمَّ ينقص؟ فأجابهم بأنَّ الحكمة الظَّاهرة في ذلك أن تكون معالم للنَّاس يوقِّتون بها أمورهم، ومعالم للعبادات المُوقَّتة، تُعرَف بها أوقاتها، وخصوصًا الحجُّ فبيَّن فساد سؤالهم؛ وهو أنَّه كان ينبغي أن يسألوا عمَّا ينفعهم في دينهم، ولا يسألوا عمَّا لا حاجة لهم في السُّؤال عنه، نعم المطابقة واقعةٌ بين السُّؤال والجواب على إحدى الرِّوايتين، فقد رواه أبو عَوانة من طريق ابن جريجٍ عن نافعٍ بلفظ: ما يترك المُحرِم؟ وهي شاذَّةٌ، والاختلاف فيها على ابن جريجٍ لا على نافعٍ، ورواه سالمٌ عن أبيه عند أحمد، وابن خزيمة وأبي عَوانة في «صحيحيهما» بلفظ: أنَّ رجلًا قال: ما يجتنب المُحرِم من الثِّياب؟ وأخرجه أحمد عن ابن عيينة عن الزُّهريِّ، فقال مرَّةً: ما يترك؟ ومرَّةً: ما يلبس؟ وأخرجه المؤلِّف في أواخر «الحجِّ» [خ¦1842] من طريق إبراهيم بن سعدٍ عن الزُّهريِّ بلفظ نافعٍ، فالاختلاف فيه على الزُّهريِّ يُشعِر بأنَّ بعضهم رواه بالمعنى، فاستقامت رواية نافعٍ لعدم الاختلاف عليه فيها، واتَّجه البحث المتقدِّم فيها، قاله في «فتح الباري». ولأبي ذرٍّ عن المُستملي: ”لا يلبس القميص“ بالإفراد (وَلَا العَمَائِمَ) جمع عمامةٍ، سُمِّيت بذلك لأنَّها تعمُّ جميع الرَّأس بالتَّغطية (وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ) جمع سروالٍ فارسيٌّ مُعرَّبٌ، والسَّراوين _بالنُّون_ لغةٌّ، والشّروال(1) بالشِّين المعجمة(2) لغةٌ (وَلَا البَرَانِسَ)‼ جمع بُرنُسٍ؛ بضمِّ النُّون، قال في القاموس: البُرْنُس _بالضَّمِّ(3)_: قلنسوةٌ طويلةٌ، أو كلُّ ثوبٍ رأسُه منه، دُرَّاعةً كان أو جُبَّةً. انتهى. وهو غير منصرفٍ، قِيلَ: لأنَّه منقولٌ عن الجمع بصيغة «مفاعيل»، وأنَّ واحده سروالةٌ، وحكى ابن الحاجب: أنَّ من العرب من يصرفه(4) (وَلَا الخِفَافَ) بكسر الخاء جمعُ خُفٍّ، فنبَّه بالقميص والسَّراويل(5) على كلِّ مخيطٍ، وبالعمائم والبرانس على كلِّ ما يغطِّي الرَّأس، مخيطًا كان أو غيره، فيحرم على الرَّجل ستر رأسه أو بعضه كالبياض الذي وراء الأذن ممَّا يُعَدُّ ساترًا عُرْفًا ولو بعصابةٍ ومرهمٍ؛ وهو ما يُوضَع على الجراحة، وطينٍ ساترٍ، لا ستره بماءٍ كأن غطس فيه، وخيطٍ شدَّ به رأسه، وهودجٍ استظلَّ به وإن مسَّه، ولا بوضع(6) كفِّه وكذا كفِّ غيره، ومحمولٍ(7) كقُفَّةٍ على رأسه لأنَّ ذلك لا يُعَدُّ ساترًا، وظاهرُ كلامهم عدمُ حرمة ذلك، سواءٌ قصد السَّتر به أم لا، لكن جزم الفُوْرَانيُّ وغيره: بوجوب الفدية فيما إذا قصد بحمل القُفَّة ونحوها السَّتر، وظاهره حرمة ذلك حينئذٍ، ولا أثر لتوسُّده وسادةً أو عمامةً، فإنَّه حاسر الرَّأس عُرْفًا، ونبَّه بـ «الخِفاف» على كلِّ ما يستر الرِّجل ممَّا(8) يلبس عليه من مداسٍ وجوربٍ وغيرهما (إِلَّا أَحَدٌ لَا يَجِدُ نَعْلَيْنِ) في موضع رفعٍ صفةٌ لـ «أحدٌ»، ويُستفاد منه _كما قاله ابن المُنيِّر في «الحاشية»_: جواز استعمال «أحدٌ» في الإثبات؛ خلافًا لمن خصَّه بضرورة الشِّعر كقوله:
وقد ظَهَرْتَ فما(9) تخفى على أحدٍ                     إلَّا على أحدٍ لا يعرف القمرا
          قال: والذي يظهر لي بالاستقراء أنَّ «أحدًا» لا يُستعَمل في الإثبات إلَّا أن يعقب النَّفي، وكأنَّ الإثبات حينئذٍ في سياق النَّفي ونظير هذا زيادة الباء، فإنَّها لا تكون إلَّا في النَّفي، ثمَّ رأيناها زِيدت في الإثبات / الذي هو في(10) سياق النَّفي؛ كقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى}[الأحقاف:33]. انتهى. والمستثنى منه محذوفٌ، ذكره مَعْمَرٌ في روايته عن الزُّهريِّ عن سالمٍ بلفظ: «وليُحرِم أحدُكم في إزارٍ ورداءٍ ونعلين، فإن لم يجد نعلين» (فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ) ولأبي الوقت: ”فليلبس الخفَّين“ بالتَّعريف (وَلْيَقْطَعْهُمَا) أي: بشرط أن يقطعهما (أَسْفَلَ مِنَ الكَعْبَيْنِ) ولا فدية عليه، فإنَّها(11) لو وجبت لبيَّنها النَّبيُّ صلعم ، وهذا موضع بيانها، وقال الحنفيَّة: عليه الفدية كما إذا احتاج إلى حلق الرَّأس يحلقه ويفدي، وقال الحنابلة: ومن لم يجد إزارًا لبس سراويل، ومتى وجد إزارًا خلعه، أو نعلين لبس خفَّين ويحرم قطعها، واستدلُّوا بحديث ابن عبَّاسٍ وجابرٍ في «الصَّحيح»: «من لم يجد نعلين فليلبس خفَّين» [خ¦5804] وليس فيه ذكر القطع، وقالوا: قطعهما‼ إضاعة مالٍ، قالوا(12): وإنَّ حديث ابن عمر المصرِّح بقطعهما منسوخٌ، وأُجيب بأنَّه لا يرتاب أحدٌ من المحدِّثين أنَّ حديث ابن عمر أصحُّ من حديث ابن عبَّاسٍ لأنَّ حديث ابن عمر جاء بإسنادٍ وُصِف بأنَّه أصحُّ الأسانيد، واتَّفق عليه عن ابن عمر غيرُ واحدٍ من الحفُّاظ، منهم: نافعٌ وسالمٌ بخلاف حديث ابن عبَّاسٍ فلم يأتِ مرفوعًا إلَّا من رواية جابر بن زيدٍ(13) عنه، وبأنَّه يجب حمل حديث ابن عبَّاسٍ وجابرٍ على حديث ابن عمر لأنَّهما مطلقان، وفي حديث ابن عمر زيادةٌ لم يذكراها يجب الأخذ بها، وبأنَّ إضاعة المال إنَّما تكون في المنهيِّ عنه لا فيما أُذِن فيه، والأمر في قوله: «فليلبس الخفَّين» للإباحة لا للوجوب، والسِّرُّ في تحريم المخيط وغيره ممَّا ذكر مخالفةُ العادة والخروج عن المألوف لإشعار النَّفس بأمرين: الخروج عن الدُّنيا والتَّذكُّر للبس الأكفان عند نزع المخيط وتنبيهها(14) على التَّلبُّس بهذه العبادة العظيمة بالخروج عن معتادها، وذلك موجبٌ للإقبال(15) عليها والمحافظة على قوانينها وأركانها وشرائطها وآدابها(16).
          (وَلَا تَلْبَسُوا) بفتح أوَّله وثالثه (مِنَ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ) بالتَّعريف، ولأبي ذرٍّ: ”زعفرانٌ“ قال الزَّركشيُّ: بالتَّنوين لأنَّه ليس فيه إلَّا الألف والنُّون فقط، وهو لا يمنع الصَّرف، فلو سَمَّيت به امتنع (أَوْ وَرْسٌ) بفتح الواو وسكون الرَّاء بعدها سينٌ مُهمَلةٌ: نبتٌ أصفر مثل نبات السِّمسم، طيِّب الرِّيح يُصبَغ به، بين الحمرة والصُّفرة(17)، أشهر طِيبٍ في بلاد اليمن؛ لكن قال ابن العربيِّ: الورس وإن لم يكن طِيبًا فله رائحةٌ طيِّبةٌ(18)، فأراد النَّبيُّ صلعم أن ينبِّه به على اجتناب الطِّيب وما يشبهه في ملاءمة الشَّمِّ، وهذا الحكم يشترك(19) فيه النِّساء مع الرِّجال بخلاف الأوَّل فإنَّه خاصٌّ بالرِّجال.
          وهذا الحديث سبق في «باب من أجاب السَّائل بأكثر ممَّا سأله» [خ¦134] في(20) آخر «كتاب العلم».


[1] في (د): «والشَّراويل».
[2] «المعجمة»: مثبتٌ من (ب) و(س).
[3] «بالضَّمِّ»: مثبتٌ من (ب) و(س).
[4] قوله: «وهو غير منصرفٍ، قِيلَ... أنَّ من العرب من يصرفه» مثبتٌ من (د) و(م).
[5] في (ب) و(س): «والسَّراويلات».
[6] في (د): «وضع».
[7] في (د): «محموله».
[8] في (ص): «بما».
[9] في غير(ص) و(م): «فلا».
[10] «في»: ليس في (م).
[11] في غير (ص) و(م): «لأنَّها».
[12] «قالوا»: ليس في (د) و(م).
[13] في (د): «يزيد»، وهو تحريفٌ.
[14] في (د): «وتنبيهًا».
[15] في (م): «يوجب الإقبال».
[16] في (م): «آدائها».
[17] في (ب) و(س): «الصفرة والحمرة».
[18] «طيِّبةٌ»: ليس في (د).
[19] في (م): «مشترك».
[20] في (د): «من».