إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث زيد: ما لك تقرأ في المغرب بقصار؟

          764- وبه قال: (حَدَّثَنَا) بالجمع، ولأبي ذَرٍّ: ”حدَّثني“ (أَبُو عَاصِمٍ) النَّبيل (عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ) عبد الملك (عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ) بضمِّ الميم وفتح اللَّام، زهير بن عبد الله المكيِّ الأحول (عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ) بن العوَّام (عَنْ مَرْوَانَ بْنِ الحَكَمِ) المدنيِّ الأمويِّ(1) (قَالَ / : قَالَ لِي زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: مَا لَكَ تَقْرَأُ فِي المَغْرِبِ بِقِصَارٍ) بتنوين العوض عن المضاف إليه، أي: بقصار المُفصَّل، وللكُشْمِيْهَنِيِّ: ”بقصار المُفصَّل“‼ ولأبي ذَرٍّ: ”يعني: المُفصَّل“ وهو استفهامٌ على سبيل الإنكار، وكان مروان حينئذٍ أميرًا على المدينة من قِبَل معاوية، وللنَّسائيِّ: «بقصار السُّور» (وَقَدْ(2) سَمِعْتُ) بضمِّ التَّاء، وفي بعضها بفتحها (النَّبِيَّ صلعم يَقْرَأُ بِطُولَى الطُّولَيَيْنِ؟) أي: بأطول السُّورتين الطَّويلتين، وطُولى تأنيث أطول، والطُّوليين _بمُثنَّاتين تحتيَّتين_ تثنية طُولى، وهذه رواية الأكثر، وعزاها في الفرع لأبي الوقت والأَصيليِّ، وفي رواية كريمة: ”بطُوْل الطُّوليين“ بضمِّ الطَّاء وسكون الواو وباللَّام فقط، وخرَّجه البرماويُّ_ كالكِرمانيِّ_ بأنَّه أطلق المصدر وأراد الوصف، أي: كان يقرأ بمقدار طول الطُّوليين اللَّتين هما «البقرة» و«النِّساء»، أو(3) «الأعراف»، وتعقَّبه في «فتح الباري» بأنَّه(4) يلزم منه أن يكون قرأ بقدر السُّورتين، وليس هو المراد، ولم يقع تفسير السُّورتين في رواية البخاريِّ، وفي رواية أبي الأسود عن عروة عن زيد بن ثابتٍ عند النَّسائيِّ: بأطول الطُّوليين { المص} ولأبي داود: فقلت: وما طُولى(5) الطُّوليين؟ قال: «الأعراف»، لكن بيَّن النَّسائيُّ في روايةٍ له: أنَّ التَّفسير من قول عروة، وزاد أبو داود: قال: يعني: ابن جريجٍ: وسألت أنا ابن أبي مُليكة، فقال لي من قِبَل نفسه: «المائدة» و«الأعراف»، وعند الجوزقيِّ مثله إِلَّا أنَّه قال: «الأنعام» بدل «المائدة»، وعند الطَّبرانيِّ وأبي نُعيمٍ في «مستخرجه» بدل «الأنعام»: «يونس». وفي تفسير الأخرى ثلاثةُ أقوالٍ، المحفوظ منها(6): «الأنعام»، ولم يرد «البقرة»، وإلَّا لقال: طولى الطُّول، فدلَّ على أنَّه أراد الأطول من بعد «البقرة»، وذلك هو «الأعراف»، وتُعقِّب بأنَّ «النِّساء» هي الأطول بعدها، وأجيب بأنَّ عدد آيات «الأعراف» أكثر من عدد «النِّساء» وغيرها من السَّبع بعد «البقرة» وإن كان كلمات «النِّساء» تزيد على كلمات «الأعراف»، وقد جنح ابن المُنَيِّر إلى أنَّ تسمية «الأعراف» و«الأنعام» بالطُّوليين إنَّما هو لعُرفٍ فيهما، لا(7) أنَّهما أطول من غيرهما، وجمع ابن المُنَيِّر بين الآثار المختلفة في إطالة القراءة في المغرب وتخفيفها بأنْ تُحمَل الإطالة على النُّدرة تنبيهًا على المشروعيَّة، ويُحمَل التَّخفيف على العادة تنبيهًا على الأَولى، قال: ولذلك قال في الإطالة: سمعته يقرأ، وفي التَّخفيف: كان يقرأ. انتهى. وتعقَّبه في «فتح الباري» بأنَّه غفل عمَّا في رواية البيهقيِّ من طريق أبي عاصمٍ شيخ المؤلِّف فيه بلفظ: «لقد كان رسول الله صلعم يقرأ»، ومثله في رواية حجَّاج بن محمَّدٍ عن ابن جريجٍ عند الإسماعيليِّ.
          واستُنبِط من الحديث: امتداد وقت المغرب إلى غيبوبة الشَّفق الأحمر، واستُشكِل بأنَّه إذا قرأ «الأعراف» يدخل وقت العشاء قبل الفراغ، وأُجيب بجوابين:
          أحدهما: أنَّه لا يمتنع إذا أوقع(8) ركعةً في الوقت، وتُعقِّب بأنَّ إخراج‼ بعض الصَّلاة عن الوقت ممنوعٌ، ولو أجزأت فلا يُحمَل ما ثبت عنه صلعم على ذلك.
          الثَّاني: أنَّه(9) يحتمل أنَّه أراد بالسُّورة بعضها، وليس الحديث نصًّا(10) في أنَّه أتمَّ السُّورة، كذا(11) قاله البرماويُّ والأُبِّيُّ، وفيه نظرٌ لأنَّه لو كان قرأ بشيءٍ منها يكون قدر سورةٍ من طوال(12) المُفصَّل لَمَا كان لإنكارِ زيدٍ(13) معنًى. وروى حديث زيدٍ هشامُ بن عروة عن أبيه عنه _كما عند ابن خزيمة_ أنَّه قال لمروان: إنَّك تخفِّف القراءة في الرَّكعتين من المغرب، فوالله؛ لقد كان رسول الله صلعم يقرأ فيهما(14) بسورة «الأعراف» في الرَّكعتين جميعًا. وما ذكره البرماويُّ من اشتراط إيقاع الرَّكعة في الوقت هو الَّذي عليه الإسنويُّ والأذرعيُّ وابن المقري، وتُعقِّب بإطلاق الشَّيخين الرَّافعيِّ والنَّوويِّ _كغيرهما_ عدم العصيان، ولم يقيِّداه بما إذا أتى بركعةٍ في الوقت، وكذا أجاب البغويُّ في «فتاويه» بالإطلاق، وجعل التَّقييد بالإتيان بركعةٍ احتمالًا، فليعتمد الإطلاق، وظاهر كلام الخادم اعتماده. انتهى(15).
          والمُستَحَبُّ القراءة في المغرب بقصار المُفصَّل، وهو مذهب أبي حنيفة وصاحبيه ومالكٍ وأحمد وإسحاق، ويؤيِّده حديث رافعٍ السَّابق في «المواقيت» [خ¦559]: أنَّهم كانوا يَنْتَضِلون بعد صلاة المغرب، فإنَّه يدلُّ على تخفيف القراءة فيها. وعند ابن ماجه بسندٍ صحيحٍ عن ابن عمر: كان رسول الله صلعم يقرأ في المغرب { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } / و{ قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ } وكان الحسن يقرأ فيها(16) بـ { إِذَا زُلْزِلَتِ } { وَالْعَادِيَاتِ } ولا يدعهما.
          ورواة حديث الباب السِّتَّة ما بين بصريٍّ ومكِّيٍّ ومدنيٍّ، وفيه: التَّحديث والعنعنة والقول، وأخرجه أبو داود والنَّسائيُّ في «الصَّلاة».


[1] «الأمويِّ»: مثبتٌ من (ب) و(س).
[2] في (م): «ويحك» بدل «وقد».
[3] في غير (ب) و(س): «و».
[4] في (م): «أنَّه».
[5] في (ص) و(م): «أطول».
[6] في (ب) و(س): «فيها».
[7] في (م): «إلا».
[8] في (م): «وقعت».
[9] «أنَّه»: ليس في (ب).
[10] في (د): «وليس في الحديث أيضًا في أنَّه».
[11] في (د): «كما».
[12] في غير (م): «قِصار»، ولعلَّ المثبت هو الصَّواب.
[13] في (م): «ذلك».
[14] في غير (ص) و(م): «فيها».
[15] قوله: «وما ذكره البرماويُّ من اشتراط إيقاع الرَّكعة في الوقت... وظاهر كلام الخادم اعتماده. انتهى» سقط من (م).
[16] في (م): «فيهما».