إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: أن رسول الله وقف في حجة الوداع فجعلوا

          1736- وبالسَّند قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ) التِّنِّيسيُّ قال: (أَخْبَرَنَا مَالِكٌ) الإمام الأعظم (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) الزُّهريِّ (عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ) القرشيِّ التَّيميِّ التَّابعيِّ (عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو) هو ابن العاص ☺ : (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم وَقَفَ) أي: على ناقته؛ كما سيأتي _إن شاء الله تعالى_ في الحديث الأخير من هذا الباب [خ¦1738] (فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ) زاد في «كتاب العلم» [خ¦83]: «بمنًى للنَّاس» (فَجَعَلُوا يَسْأَلُونَهُ، فَقَالَ رَجُلٌ) لم يُسَمَّ: (لَمْ أَشْعُرْ) أي: لم أفطن، وهو أعمُّ من الجهل والنِّسيان، ولم يُفصِح في رواية / مالكٍ بمتعلَّق الشُّعور، وقد بيَّنه يونس عند مسلمٍ، ولفظه: لم أشعر أنَّ النَّحر قبل الحلق (فَحَلَقْتُ) شعر رأسي، والفاء سببيَّةٌ، جعل الحلق مُسبَّبًا عن عدم شعوره، كأنَّه يعتذر لتقصيره (قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ) هديي (قَالَ) ╕ : (اذْبَحْ) هديك (وَلَا حَرَجَ) عليك (فَجَاءَ) رجلٌ (آخَرُ، فَقَالَ): يا رسول الله (لَمْ أَشْعُرْ) أي: أنَّ الرَّمي(1) قبل النَّحر (فَنَحَرْتُ) هديي (قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ) الجمرة (قَالَ) ╕ : (ارْمِ) الجمرة (وَلَا حَرَجَ) عليك (فَمَا سُئِلَ) النَّبيُّ صلعم (يَوْمَئِذٍ عَنْ شَيْءٍ) من الرَّمي والنَّحر والحلق والطَّواف (قُدِّمَ وَلَا أُخِّرَ) بضمِّ القاف والهمزة فيهما، أي: لا قدم، فحذف لفظ(2): «لا»، والفصيح: تكرارها في الماضي، قال تعالى: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ}[الأحقاف:9]، ولـ «مسلمٍ»: ما سُئِل عن شيءٍ قُدِّم أو أُخِّر (إِلَّا قَالَ) صلعم : (افْعَلْ) ذلك التَّقديم والتَّأخير متى شئت (وَلَا حَرَجَ) عليك مطلقًا، لا في التَّرتيب ولا في ترك الفدية، وهذا مذهب الشَّافعيَّة والحنابلة، وقال مالكٌ وأبو حنيفة: التَّرتيب‼ واجبٌ، يُجبَر بدمٍ لِما رُوِي عن ابن عبَّاسٍ: من قدَّم شيئًا في حجِّه أو أخَّره فليهرق دمًا، وتأوَّلا «لا حرج»: لا إثم؛ لأنَّ الفعل صدر من غير قصدٍ، بل جهلًا أو نسيانًا كما يدلُّ(3) عليه قوله: «لم أشعر»، واحتجَّ به من قال: إنَّ الرُّخصة تختصُّ بالجاهل والنَّاسي، لا بمن تعمَّد، وأُجيب بأنَّ التَّرتيب لو كان واجبًا لَما سقط بالسَّهو كالتَّرتيب بين السَّعي والطَّواف، فإنَّه لو سعى قبل أن يطوف وجب إعادة السَّعي، وقول ابن التِّين: هذا الحديث لا يقتضي رفع الحرج في غير المسألتين المنصوص عليهما لأنَّ قوله: «لَا حَرَجَ» وقع جوابًا للسُّؤال، فلا يدخل فيه غيره، وكأنَّه غفل عن قوله في بقيَّة الحديث: فما سُئِل عن شيءٍ قُدِّم ولا أُخِّر إلَّا قال: «افْعَلْ»، أو: حمل ما أُبهِم فيه على ما ذُكِر، ويردُّه(4) قوله في رواية ابن جريجٍ التَّالية(5) لهذه [خ¦1737] وأشباه ذلك، قال ابن دقيق العيد(6): وهذا القول _في سقوط الدَّم عن الجاهل أو النَّاسي دون العامد_ قويٌّ من جهة أنَّ الدَّليل دلَّ على وجوب اتِّباع فعل الرَّسول صلعم في الحجِّ بقوله: «خذوا عنِّي مناسككم»، وهذه الأحاديث المرخِّصة في تقديم ما وقع السُّؤال عنه إنَّما قُرِنت(7) بقول السَّائل: «لم أشعر»، فيختصُّ الحكم بهذه الحالة، وتبقى حالة العمد على أصل اتِّباع الرَّسول ◙ في الحجِّ، وأيضًا: الحكم إذا رُتِّب على وصفٍ يمكن أن يكون معتبرًا لم يجز اطِّراحه وإلحاق غيره بما لا يساويه، ولا شكَّ أنَّ عدم الشُّعور وصفٌ مناسبٌ لعدم التَّكليف والمُؤاخَذة، والحكم عُلِّق به، فلا يمكن اطِّراحه بإلحاق العمد به؛ إذ لا يساويه، وأمَّا التَّمسُّك بقول الرَّاوي: فما سُئِل عن شيء قُدِّم إلَّا قال: «افعل ولا حرج» فإنَّه قد يُشعِر بأنَّ التَّرتيب مطلقًا مراعًى في الوجوب، فجوابه: أنَّ الرَّاوي لم يجد لفظًا عامًّا عن الرَّسول صلعم يقتضي جواز التَّقديم والتَّأخير مطلقًا، وإنَّما أخبر عن قوله ◙ : «لا حرج» بالنِّسبة لأجل ما سُئِل عنه من التَّقديم والتَّأخير حينئذٍ، فالإخبار من الرَّاوي إنَّما تعلَّق بما وقع السُّؤال عنه، وذلك مطلقٌ بالنِّسبة إلى حال السَّائل، والمطلق لا يدلُّ على أحد الخاصَّين بعينه، فلا تبقى حجَّةً في حال العمد(8)، وليس في هذا الحديث ذكر الدَّابَّة المترجم بها، بل قال الإسماعيليُّ: إنَّها لم تكن في شيءٍ من الرِّوايات عن مالكٍ، لكن في رواية يحيى القطَّان عنه: أنَّه جلس في حجَّة الوداع، فقام رجلٌ، قال الإسماعيليُّ: فإن ثبت في شيءٍ من الطُّرق أنَّه كان على دابَّةٍ فيُحمَل قوله: «جلس» أي: على دابَّته. انتهى. والدَّابَّة: تُطلَق على المركوب من ناقةٍ وفرسٍ وغيرهما.
          وفي هذا الحديث: رواية التَّابعيِّ عن التَّابعيِّ عن الصَّحابيِّ، ورواته كلُّهم مدنيُّون إلَّا شيخ المؤلِّف.


[1] في (د): «أرمي».
[2] في (ب) و(س): «فحذف لفظة»، وفي (د): «بحذف لفظة».
[3] في (د): «دلَّ».
[4] في (ص): «ويؤيِّده».
[5] في (م): «الثَّالثة»، وهو تصحيفٌ.
[6] «قال ابن دقيق العيد»، وليس في (د).
[7] في (ص): «قويت».
[8] قوله: «قال ابن دقيق العيد: وهذا القول... فلا تبقى حجَّةً في حال العمد» سقط من غير (ص) و(م).