عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

{قل يا أيها الكافرون}
  
              

          ░░░109▒▒▒ (ص) سُورَةُ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}.
          (ش) أي: هذا في تفسير بعض شيءٍ مِن (سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}) ويقال لها: (سورة الكافرين)، و(المُقَشْقِشَة) أي المبرِّئة مِنَ النفاق، وهي مَكِّيَّةٌ، وهي أربعةٌ وتسعون حرفًا، وستٌّ وعشرون كلمةً، وستُّ آياتٍ.
          والخطاب لأهل مكَّة؛ منهم: الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائلٍ، والحارث بن قيسٍ السهميُّ، والأسود بن عبد يغوث، والأسود بن عبد المطَّلب، وأميَّة بن خلفٍ، قالوا: يا مُحَمَّد؛ فاتَّبع ديننا ونتَّبع دينك، ونشركك في أمرنا كلِّه، تعبد آلهتنا سَنةً، ونعبد إلهك سنةً، فقال: «معاذ الله أن أشرك به غيره!» فأنزل الله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}... إلى آخر السورة.
          (ص) {لَكُمْ دِينُكُمْ} الْكُفْرُ. {وَلِيَ دِينِ} الْإِسْلَامُ، وَلَمْ يَقُلْ: دِينِي؛ لِأَنَّ الْآيَاتِ بِالنُّونِ، فَحُذِفَتِ الْيَاءُ كَمَا يُقَالُ: {يَهْدِينِ} وَ{يَشْفِينِ}.
          (ش) أشار به إلى تفسير قوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} أي: لكم دين الكفر وَلِيَ دين الإسلام، هكذا فسَّره الفَرَّاء، وقرأ نافعٌ وحفصٌ وهشامٌ: {وَلِيَ} بفتح الياء، والباقون بسكونها، وهذه الآية منسوخةٌ بآية السيف.
          قوله: (وَلَمْ يَقُلْ: دِينِي) إلى آخره: حاصله أنَّ النونات _أي: الفواصل_ كلُّها بحذف الياء رعايةً للمناسبة، وذلك كما في قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ. وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ. وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ. وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ}[الشعراء:78-81] فإنَّ الياء في {يَهْدِينِ} و{يَسْقِينِ} و{يَشْفِينِ} و{يُحْيِينِ} حُذِفَت في كلِّها رعايةً للفواصل والتناسب، وهذا نوعٌ مِن أنواع البديع.
          (ص) وَقَالَ غَيْرُهُ: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} الْآنَ وَلَا أُجِيبُكُمْ فِيمَا بَقِيَ مِنْ عُمُرِي {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا}.
          (ش) ليس في رواية أبي ذرٍّ لفظ: (وقال غيره)، وقال بعضهم: والصواب إثباته؛ لأنَّه ليس مِن بقيَّة كلام الفَرَّاء، بل هو كلام أبي عبيدة.
          قلت: الصواب حذفه؛ لأنَّه لم يذكر قبله: (وقال الفَرَّاء) حَتَّى يقال بعده: (وقال غيره) وهذا ظاهرٌ.
          وحاصل قوله: ({لَا أَعْبُدُ}...) إلى قوله: (وَهُمُ الَّذِينَ) أي: لا أعبد في الحال ولا في الاستقبال {مَا تَعْبُدُونَ} إِنَّما قال: {مَا} ولم يقل: (مَن) لأنَّ المراد الصفة، كأنَّه قال: لا أعبد الباطلَ وأنتم لا تعبدون الحقَّ، وقيل: {مَا} مصدريَّةٌ؛ أي: لا أعبد عبادتَكم ولا تعبدون عبادتي، ثُمَّ وجْهُ التكرار فيه التأكيد؛ لأنَّ مِن مذاهب العرب التكرارَ إرادةَ التأكيد والإفهام، كما أنَّ مِن مذاهبهم الاختصارَ إرادةَ التخفيف والإيجاز، وهذا بحسب ما يقتضيه الحال، وقال الكرمانيُّ: هو إمَّا للحال / حقيقةً وللاستقبال مجازًا، وبالعكس، أو هو مشتركٌ، وكيف جاز الجمع بينهما؟ ثُمَّ أجاب بقوله: قلت: الشَّافِعِيَّة جوَّزوا ذلك مطلقًا، وأَمَّا غيرهم فجوَّزوه بعموم المجاز.
          قوله: (وَهُمُ الَّذِينَ) أي: المخاطبون بقوله: {أَنْتُمْ} هم الذين قال الله في حقِّهم: ({وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ}...) إلى آخره.