عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

سورة النساء
  
              

          ░░░4▒▒▒ (ص) سورة النِّسَاءِ.
          (ش) أي: هذا تفسير (سورة النساء)، قال العَوفيُّ «عن ابن عَبَّاسٍ: نزلت سورة النساء بالمدينة، وكذا روى ابن مَردويه عن عبد الله بن الزُّبَير وزيد بن ثابت ♥ ، وقال ابن النقيب: جمهور العلماء أنَّها مدنيَّةٌ، وفيها آيةٌ واحدةٌ نزلت بِمَكَّةَ عام الفتح في عثمان بن أبي طلحة؛ وهي: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}[النساء:58] وعددُ حروفها سِتَّة عشر ألف حرفٍ وثلاثون حرفًا، وثلاثةُ آلافٍ وسبع مئة وخمس وأربعون كلمةً، ومئة وستٌّ وسبعون آيةً.
          (ص) ♫
          (ش) البسملة لم تثبت إلَّا في رواية أبي ذرٍّ.
          (ص) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {يَسْتَنْكِفُ}: يَسْتَكْبِرُ.
          (ش) لم يقع هذا إلَّا فِي رواية الكُشْميهَنيِّ والمُسْتَمْلِي، وأشار به إلى ما في قولِه تعالى: {وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ}[النساء:172].
          وهذا التعليقُ وصله ابن أبي حاتم بإسنادٍ صحيحٍ مِن طريق ابن جُرَيْج عَن عطاءٍ عن ابن عَبَّاسٍ ☻ في قولِهِ تعالى: {وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ} قال: يستكبر.
          فَإِنْ قُلْتَ: ما وجهُ ذلك وقد عطف ({يَسْتَكْبِرُ}) على ({يَسْتَنْكِفُ}) في الآية؛ حيث قال: {وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ} والمعطوفُ غيرُ المعطوف عليه؟
          قُلْت: يجوز أن يكون عطفًا تفسيريًّا، وقد تعجَّب بعضُهم هذا عنِ ابن عَبَّاسٍ بطريق الاستبعاد، ثُمَّ قال: ويمكن أن يُحمَلَ على التوكيد.
          قُلْت: الصواب ما قلته، ومثل هذا لا يسمَّى توكيدًا يفهمه مَن له إلمامٌ بالعربيَّة، وقال الطَّبَريُّ: يعني: {يَسْتَنْكِفْ} يأنَف، وقال الزجَّاج: هو استنكافٌ مِنَ النكف؛ وهو الأَنَفَة.
          (ص) {قِوَامًا} قِوَامُكُمْ مِنْ مَعَايِشِكُمْ.
          (ش) أشار بهذا إلى قراءة ابن عمر في قوله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا}[النساء:5] حيث قرأ: {قِوامًا} ثُمَّ فسَّره بقوله: (قِوَامُكُمْ مِنْ مَعَايِشِكُمْ) ؛ يعني: (القيام) ما يقيم به الناس معايِشهم، وكذلك (القِوام)، وهذا التعليق وصله ابن أبي حاتِم عن أبيه: حَدَّثَنَا أبو صالحٍ: حدَّثني معاوية بن صالحٍ عن عليِّ بن أبي طلحة عن ابن عَبَّاسٍ.
          (ص) {لَهُنَّ سَبِيلًا} يَعْنِي: الرَّجْمَ لِلثَّيِّبِ وَالْجَلْدَ لِلْبِكْرِ.
          (ش) أشار به إلى ما في قولِهِ تعالى: {فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا}[النساء:15] كان الحكم في ابتداء الإسلام أنَّ المرأة إذا زنت فثبت زناها بالبيِّنة العادلة؛ حُبِسَت في بيتٍ، فلا تُمكَّنُ مِن الخروج إلى أن تموت، وقوله: ({أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا}) نَسَخَ ذلك، واستقرَّ الأمر على الرجم للثيِّب والجلد للبكر، وقد روى الطبرانيُّ مِن حديث ابن عَبَّاسٍ قال: لَمَّا نزلت (سورة النساء) قال رسول الله صلعم : «لا حَبْس بعد سورة النساء».
          قوله: ({لَهُنَّ سَبِيلًا} يَعْنِي: الرَّجْمَ لِلثَّيِّبِ وَالْجَلْدَ لِلْبِكْرِ) لم يثبت إلَّا في رواية الكُشْميهَنيِّ والمُسْتَمْلِي، وفسَّر قوله: ({لَهُنَّ سَبِيلًا}) بقوله: (يَعْنِي الرَّجْمَ لِلثَّيِّبِ وَالْجَلْدَ لِلْبِكْرِ) يعني: أنَّ المراد بقوله: {سَبِيلًا} هو الرجم والجلد، وهو قد نَسَخَ الحبسَ إلى الموت، وروى مسلمٌ وأصحاب السنن الأربعة مِن حديث / عُبَادَة بن الصامت ☺ : أنَّ النَّبِيَّ صلعم قال: «خذوا عنِّي، قد جعل الله لهنَّ سبيلًا، البكر بالبكر جلد مئةٍ وتغريب عامٍ، والثيِّب بالثيِّب جلد مئة والرجم».
          (ص) وَقَالَ غَيْرُهُ: {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ}[النساء:3] يَعْنِي: اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثًا وَأَرْبَعًا، وَلَا تُجَاوِزُ الْعَرَبُ رُبَاعَ.
          (ش) أي: قال غير ابنِ عَبَّاس، ووقع هكذا في رواية الأكثرين، ولم يقع هذا في رواية أبي ذرٍّ، والصوابُ وقوعُه؛ لأنَّ على رواية أبي ذرٍّ يوهم أنَّ قوله: {مَثنَى}... إلى آخره رويَ عن ابن عَبَّاسٍ، وليس كذلك، فَإِنَّهُ لم يرو عن ابن عَبَّاس، وإِنَّما هو من قول أبي عُبيدة، وتفسيره قوله: (يَعْنِي: اثْنَتَيْنِ) يرجع إلى قوله: ({مَثْنَى})، وقوله: (وَثَلَاثًا) يرجع إلى قوله: ({وَثُلَاثَ})، وقوله: (وَأَرْبَعًا) يرجع إلى قوله: ({ورُبَاعَ}) وليس المعنى على ما ذَكَره، بل معناه المكرَّر؛ نحو: اثنين اثنين، والظاهر أنَّهُ تركه اعتمادًا على الشُّهرة، أو عنده ليس بمعنى التكرار، وليس فيها الانصرافُ؛ للعدل والوصف، وقال الزَّمَخْشَريُّ: لِمَا فيها مِنَ العدلين؛ عدلها عن صيغتها، وعدلها عَن تكرُّرها.
          قوله: (وَلَا تُجَاوِزُ الْعَرَبُ رُبَاعَ) إشارة إلى أنَّ هذا اختياره، وفيه خلافٌ قاله ابن الحاجب: هل يقال: خُماس ومَخمَس... إلى عُشار ومعشر؟ قال: فيه خلافٌ، والأصحُّ أنَّهُ لم يثبت، وذكر الطَّبَريُّ أنَّ العشرة يقال فيها: عُشار، ولم يُسمَع في غير بيتِ الكُمَيت؛ وهو قوله:
فَلَم يسْتَريثُوكَ حَتَّى رميتَ                     فَوقَ الرِّجَالِ خِصَالًا عُشَارَا
          يريد: عَشْرًا، وذكر النُّحاة أنَّ خَلَفًا الأحمرَ أنشد أبياتًا غريبةً فيها مِن خُماس إلى عُشار.