عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

كتاب العلم
  
              

          ░░3▒▒ (ص) كِتابُ العِلْمِ.
          (ش) الكلامُ فيهِ على أنواعٍ:
          الأوَّل: أنَّ لَفْظَ (كِتَابٌ) مرفوعٌ؛ لأنَّهُ خَبرُ مُبتدأٍ محذوفٍ، مضافٌ إلى (العِلْمِ) ؛ والتقديرُ: هذا كتابُ العلمِ؛ أي: في بيانِ ما يتعلَّقُ بهِ، وليسَ هو في بيانِ ماهيَّة العلمِ؛ لأنَّ النَّظرَ في الْمَاهيَّاتِ وحقائقِ الأشياءِ ليسَ مِن فَنِّ الكتاب.
          الثاني: أنَّهَُ قَدَّمَ هذا الكتابَ على سائرِ الكُتُبِ التي بعدَه؛ لأنَّ مَدارَ تلك الكُتُبِ كلِّها على العلمِ، وإنَّما لم يُقَدَّم على (كتابِ الإيمان) ؛ لأنَّ الإيمانَ أوَّل واجبٍ على المكلَّفِ، أو لأنَّهُ أفضلُ الأمور على الإطلاق وأشرُفها، وكيفَ لا، وهو مُبْتَدَأُ كلِّ خيرٍ علمًا وعملًا، ومنشأُ كلِّ كمالٍ دِقًّا وجِلًّا؟!
          فإنْ قُلتَ: فَلِمَ قُدِّمَ (كتابَ الوَحْيِ) عليه؟
          قلتُ: لتوقُّفِ معرفة الإيمانِ وجميعِ ما يتعلَّق بالدِّينِ عليه، أو لأنَّهُ أوَّلُ خَيرٍ نَزَلَ مِنَ السماءِ إلى هذه الأمَّةِ، وقد أشبعنا الكلامَ في (كتابِ الإيمان)، فليُعاوَد هناك.
          الثالثُ: أنَّ (العلمَ) / في اللُّغة مصدر: عَلِمْتُ وأعلَمُ عِلْمًا، قالَ الجَوْهَريُّ: عَلِمْتُ الشيءَ أعلَمُه عِلمًا: عَرِفتَه؛ بالكسرِ، فهذا كما ترى لم يُفَرِّقْ بين العلمِ والمعرفة، والفرقُ بينهما ظاهرٌ؛ لأنَّ (المعرفَةَ) إدراكُ الجزئيَّات، و(العلمَ) إدراكُ الكُليَّات؛ ولهذا لا يجوز أنْ يُقال: «الله عارفٌ»؛ كما يُقال: «عالِمٌ»، وقال ابن سِيدَه: العِلْمُ نقيضُ الجهلِ، عَلِمَ علمًا، وعَلُمَ هو نفسُهُ، ورَجُلٌ عَالِمٌ وعَليمٌ: مِن قومٍ عُلَماء، وعلَّامٌ وعلَّامَةٌ مِن قَومٍ عَلَّامينَ، والعلَّامُ والعلَّامَةُ: النَّسَّابَةُ، ويُقال: إذا بُولِغَ في وَصْفِ الشَّخْصِ بالعلمِ؛ يُقال له: علَّامَةٌ، وعلَّمَهُ العِلْمَ وأعلمَهُ إيَّاهُ، فتعلَّمَهُ، وفَرَّقَ سِيبَويه بينهما، فقالَ: عَلَّمْتُ كأدَّبْتُ، وأَعْلَمْتُ كَآذَنْتُ، وقالَ أبو عُبيد عن الأحمر: عَالَمَنِي فلانٌ، فَعَلَمْتُهُ، أُعْلُمُهُ؛ بالضَّمِّ، وكذلك كلُّ ما كانَ مِن هذا البابِ بالكسر في (يَفعِلُ)، فإنَّهُ في باب المغالبَةِ يرجِعُ إلى الضَّمِّ؛ كضاربتُهُ فضربتُهُ أَضْرِبُهُ، وعَلِمَ بالشيءِ: شَعَرَ، وقالَ يَعقوبُ: إذا قيل لك: اعلمْ كذا؛ قُلتَ: قَدْ عَلِمْتُ، وإذا قِيلَ: تَعَلَّمْ؛ لَمْ تَقُلْ: قَدْ تَعَلَّمْتُ، وفي «المخصَّص»: عَلَّمْتُهُ الأَمْرَ، وأَعْلَمْتُه به وعلَّمْتُهُ إيَّاهُ، فَعَلِمَهُ وتعلَّمَهُ، وقالَ أبو عَليٍّ: سُمِّيَ العِلْمُ عِلْمًا؛ لأنَّهُ مِنَ العَلامَةِ؛ وهي الدَّلالَةُ والإشارةُ، ومِمَّا هو ضَرْبٌ مِنَ العلم قولٌهم: اليقينُ، ولا ينعكِسُ، فنقول: كلُّ يَقينٍ عِلْمٌ، وليسَ كلُّ علمٍ يقينًا؛ وذلكَ أنَّ اليقينَ عِلْمٌ يَحْصُلُ بعدَ استدلالٍ ونَظَرٍ لغموضٍ فيه، والعِلْمُ: النَّظَرُ والتصفُّحُ، ومِنَ العلمِ الدرايةُ؛ وهي ضَرْبٌ منه مخصوصٌ، ثمَّ العلماءُ اختلفوا في حَدِّ العلمِ؛ فقالَ بَعْضُهُم: لا يُحَدُّ، وهؤلاءِ اختلفوا في سَببِ عَدَمِ تحديدِه؛ فقالَ إمامُ الحرمينِ والغزاليُّ: يعْسُر تَحديدهِ، وإنَّما تَعريفُهُ بالقِسْمَةِ والمثال، وقالَ بعضهم؛ ومِنْهم الإمامُ فَخْرُ الدِّين: لأنَّهُ ضَروريٌّ؛ إذ لو لَمْ يَكنْ ضروريًّا؛ لَزِمَ الدَّورَ، واللازِمُ باطِلٌ، فالملزومُ مثلُهُ، بيانُ الملازمَةِ: أنَّهُ لو لم يَكُنْ ضَروريًّا؛ لكانَ نظريًّا؛ إذْ لا واسِطَةَ، ولَو كانَ نَظَريًّا لَزِمَ الدَّور؛ يَنْتُجُ أنَّهُ لو لم يكنْ ضروريًّا؛ لزم الدَّورَ، وإنَّما قُلنا: إنَّهُ لو كان نظريًّا؛ لزِمَ الدور؛ لأنَّهُ لو كانَ نظريًّا؛ لَعُلِمَ بغيرِ العلمِ؛ لامتناعِ اكتسابِهِ مِن نَفْسِهِ، وغيرُ العلم لا يُعلَمُ إلَّا بالعلمِ، [فيلزَمُ معرفةُ العلمِ بغيرِ العلم الذي لا يُعلَم إلَّا بالعلمِ، فيلزَمُ] الدَّورُ، وهو مُحالٌ لاستلزامِهِ تَقدُّمَ الشيء على نفسِهِ، واستلزامه امتناعَ تصوُّر العلم المتصوَّر، وقالَ الآخرونَ: إنَّهُ يُحَدُّ، ولهم فيه أقوالٌ، وأصحُّ الحدودِ: أنَّهُ صِفَةٌ مِن صفاتِ النَّفسِ تُوجِبُ تَمْييزًا لا يحتملُ النقيضَ في الأمور المعنويَّةِ، فقولُهُ: (صِفَةٌ) جنسٌ؛ لتناولِهِ لجميعِ صفاتِ النَّفس، وقولُهُ: (تُوجِبُ تَمْييزًا) احترازٌ عَمَّا لا يُوجِبُ تَمْييزًا؛ كالحياة، وقولُهُ: (لا يحْتَملُ النَّقيض) احترازٌ عن مثالِ الظَّنِّ، وقولُهُ: (في الأمورِ المعنويَّةِ) يخرج إدراك الحواسِّ؛ لأنَّ إدراكَها في الأمورِ الظاهرَةِ المحسوسَةِ.