عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

{اقتربت الساعة}
  
              

          ░░░54▒▒▒ (ص) سَورَةُ {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ}
          (ش) أي: هذا في تفسير بعض (سورة {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ}) وتُسمَّى أيضًا (سورة القمر)، قال مقاتلٌ فيما ذكره ابن النقيب وغيره: مَكِّيَّةٌ إلَّا ثلاث آياتٍ؛ أوَّلها: {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ}[القمر:44] وآخرها قوله: {وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ}[القمر:46] كذا قالوه عن مقاتلٍ، وفيه نظرٌ مِن حيث إنَّ الذي في «تفسيره» هي مَكِّيَّةٌ غير آيةٍ: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ}[القمر:45] فَإِنَّهُا نزلت في أبي جهل بن هشامٍ يوم بدرٍ.
          وهي ألفٌ وأربعً مئةٍ وثلاثةٌ وعشرون حرفًا، وثلاثُ مئةِ واثنتان وأربعون كلمةً، وخمسٌ وخمسون آية.
          قوله: ({اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ}) أي: دنت القيامة، وعن ابن كَيْسان: في الآية تقديمٌ وتأخيرٌ، مجازها: انشقَّ القمر واقتربت الساعة.
          (ص) ♫
          (ش) لم تثبت البسملة إلَّا لأبي ذرٍّ.
          (ص) وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {مُسْتَمِرٌّ} ذَاهِبٌ.
          (ش) أي: قال مجاهدٌ في قوله تعالى: {وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ}[القمر:2] وفسَّر ({مُسْتَمِرٌّ}) بقوله: (ذَاهِبٌ) هذا التعليق رواه عبدٌ عن شبابة، عن ورقاء، عن ابن أبي نَجيحٍ عنه، وروى عبد الرَّزَّاق عن معمرٍ عن قتادة عن أنسٍ: {مُسْتَمِرٌّ} قال: ذاهبٌ، وفي التفسير: {مُّسْتَمِرٌّ} ذاهبٌ سوف يذهب ويبطل، مِن قولهم: مرَّ الشيء واستمرَّ، وعن الضَّحَّاك: مُحكَمٌ شديدٌ قويٌّ، وعن قتادة: غالبٌ، مِن قولهم: مرَّ الحبل إذا صلبَ واشتدَّ وقَوِي، وأمررتُه أنا إذا أحكمت فتله، وعن الربيع: نافذٌ، وعن يمانٍ: ماضٍ، وعن أبي عبيدة: باطلٌ، وقيل: يشبه بعضُه بعضًا.
          (ص) {مُزْدَجَرٌ} مُتَنَاهٍ.
          (ش) أشار به إلى قوله ╡ : {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِّنَ الْأَنبَاء مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ}[القمر:4] أي: (مُتَنَاهٍ) بصيغة الفاعل؛ أي: نهايةً وغايةً في الزجر لا مزيد عليه، وكذا فسَّره قتادة، ويجوز أن يكون بصيغة المفعول مِن التناهي، بمعنى الانتهاء؛ أي: جاءكم مِنَ أخبارِ عذابِ الأُمَمِ السالفة ما فيه موضع الانتهاء عن الكفر والانزجار عنه؛ فافهم، وعن سفيان: منتهي، وأصل: {مُزْدَجَرٌ}: مُزتَجر، قُلِبَت التاء دالًا.
          (ص) {وَازْدُجِرَ} اسْتُطِيرَ جُنُونًا.
          (ش) أشار به إلى قوله جلَّ ذِكْرُه: {وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ}[القمر:9] معناه: (اسْتُطِيرَ جُنُونًا) وهكذا فسَّره مجاهدٌ، وعن ابن زيدٍ: اتَّهموه وزجروه ووعدوه لئن لم تفعل لتكوننَّ مِنَ المرجومين، وقال الثعلبيُّ: زجروه عن دعوته ومقالته.
          (ص) {دُسُرٌ} أضْلاعُ السَّفِينَةِ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ}[القمر:13] وفسَّر (الدُّسُر) بـ(أضْلاعِ السَّفِينَةِ) وهكذا روي عن مجاهدٍ، وفي التفسير: {دُسُر} مساميرٌ، واحدها: داسر ودَسِير، يقال منه: دَسَرْتُ السفينةَ إذا شددتَها بالمسامير، قاله قتادة وابن زيدٍ، وهو روايةٌ عن ابن عَبَّاسٍ، وعن الحسن: هي صدر السفينة، سُمِّيت بذلك لأنَّها تدسر الماء بجؤجئها؛ أي: تدفع، وهي روايةٌ أيضًا عن ابن عَبَّاسِ قال: الدُّسَر: كلكل السفينة، وأصل (الدَّسْر) : الدفع، وفي الحديث في العنبر: (إِنَّما هو شيءٌ دسره البحر) أي: دفعه.
          (ص) {لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} يَقُولُ: كُفِرَ لَهُ جَزَاءً مِنَ الله.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ}[القمر:14] وفسَّره بقوله: (كُفِرَ لَهُ جَزَاءً مِنَ الله) أي: كُفِر له، مِنَ الكفران بالنعمة، والضمير في (لَهُ) لنوحٍ ◙ ؛ أي: فعلْنِا بنوحٍ وبهم ما فعلنا مِن فتح أبواب السماء وما بعده مِنَ التفجير ونحوه جزاءً مِنَ الله بما صنعوا بنوحٍ وأصحابه، وقال النَّسَفِيُّ: قال الفَرَّاء: جزاءً بكفرهم، و«من» بمعنى «ما» المصدريَّة، وقيل: معناه: عاقبناهم لله لأجل كفرهم به، وقيل: معناه لمن كان كَفَر بالله، وهو قراءةُ قتادة فَإِنَّهُ كان يقرأ بفتح الكاف والفاء، وقال: لمن كان كَفَر بنوحٍ ◙ .
          (ص) / {مُحْتَضَرٌ} يَحْضُرُونَ المَاءَ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاء قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ}[القمر:28] يعني: قوم صالحٍ ◙ (يَحْضُرُونَ المَاءَ) إذا غابتِ الناقةُ، فإذا جاءتْ حضروا اللَّبن، هكذا رُويَ عن مجاهدٍ.
          قوله: {شِرْبٍ} أي: نصيبٍ مِنَ الماء، وفي التفسير: {مُحْتَضَرٌ} يحضره مَن كانت نوبتُه، فإذا كانت نوبةُ الناقة حضرَتْ شَربَها، وإذا كان يومهم حضروا شِربهُم.
          (ص) وَقَالَ ابنُ جُبَيْرٍ: {مُهْطِعِينَ} النَّسَلانُ. الْخَبَبُ السِّرَاعُ.
          (ش) أي: قال سعيد ابن جُبَير في قوله تعالى: {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ}[القمر:8] هذا رواه ابن المنذر عن موسى: حَدَّثَنَا يحيى: حَدَّثَنَا شريك، عن سالم، عن سعيد بن جُبَيرٍ.
          قوله: ({مُهْطِعِينَ}) أي: مسرعين، مِنَ الإهطاع.
          قوله: (النَّسَلَانُ) تفسير (الإهطاع) الذي يدلُّ عليه: {مُهْطِعِينَ} و(النَّسَلَانُ) بفتح النون والسين المُهْمَلة: مشية الذئب إذا أعنق، وفسَّره هنا بـ(الخَبَبِ) بفتح الخاء المُعْجَمة والباء المُوَحَّدة بعدها أخرى، هو ضربٌ مِنَ العدْوِ.
          قوله: (السِّرَاعُ) مِنَ المسارعة، تأكيدٌ له، وروى ابن المنذر مِن طريق عليِّ بن أبي طلحة عن ابن عَبَّاسٍ في قوله: {مُهْطِعِينَ} قال: ناظرين، وعن قتادة: عامدين إلى الداعي، أخرجه عبد بن حُمَيدٍ، وقال أحمد بن يحيى: المُهْطِع: الذي ينظر في ذلٍّ وخشوعٍ لا يتبع بصره، و(الداعي) : هو إسرافيل ◙ .
          (ص) وَقَالَ غَيْرُهُ: {فَتَعَاطَى} فَعَاطَهَا بِيَدِهِ.
          (ش) أي: قال غيرُ سعيدِ بن جُبَيرٍ في قوله تعالى: {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ}[القمر:29] وفسَّر ({فَتَعَاطَى}) بقوله: (فَعَاطَهَا بِيَدِهِ) أي: تناولها بيده فَعَقَرَهَا؛ أي: ناقة صالحٍ ◙ ، هذا المذكور هو في رواية أبي ذرٍّ، وفي رواية غيره: <{فَتَعَاطَى} فعاطى بيده فعقرها>، وقال ابن التين: لا أعلم لقوله: «عاطها» هنا وجهًا إلَّا أن يكون مِن المقلوب الذي قُلِبَتْ عينُه على لامه؛ لأنَّ «العطو» التناول، فيكون المعنى: فتناولها بيده، وأَمَّا «عَوط» فلا أعلمه في كلام العرب، وأَمَّا «عَيط» فليس معناه موافقًا لهذا، وقال ابن فارسٍ: التعاطي: الجراءة، والمعنى: تجرَّأ فعقر.
          (ص) {الْمُحْتَظِرِ} كَحَِظَارٍ مِنَ الشَّجَرِ مُحْتَرِقٍ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ}[القمر:31] وفسَّر ({الْمُحْتَظِرِ}) بقوله: (كَحَِظَارٍ) بكسر الحاء المُهْمَلة وفتحها وبالظاء المُعْجَمة؛ أي: مُنْكَسِرٍ (مِنَ الشَّجَرِ مُحْتَرِقٍ) وكذا روى ابن المنذر مِن طريق ابن جُرَيْجٍ، عن عطاءٍ، عن ابن عَبَّاسٍ، وقد أخبر اللهُ ╡ بقوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ}[القمر:31] العذاب الذي أرسل على قوم صالح] ◙ ، لأجل عقر الناقة، وقال الثعلبيُّ: {الْمُحْتَظِرِ} الحظيرة، وعن ابن عَبَّاسٍ: هو الرجل يجعل لغنمه حظيرةً مِنَ الشجر والشَّوك دون السِّبَاع، فما سقط مِن ذلك أو داسته الغنم، فهو الهشيم، وقال قتادة: يعني: كالعظام النَّخِرَة المحتَرِقة، وهي روايةٌ عن ابن عَبَّاسٍ أيضًا، وعنه أيضًا: كحشيشٍ تأكله الغنم.
          (ص) {ازْدُجِرَ} افْتُعِلَ مِنْ زَجَرْتُ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ}[القمر:9] وهذا قد مرَّ عن قريبٍ، غير أنَّهُ أعاده إشارةً إلى أنَّ هذا مِن باب الافتعال؛ لأنَّ أصله: (ازتجر) فقُلَِبْت التاء دالًا فصار: {ازْدُجِر}، وهو مِنَ الزَّجر، وليس مِن زجرت؛ لأنَّ الفعل لا يشتقُّ مِنَ الفعل بل يشتقُّ مِنَ المصدر، ولو ذَكَرَ هذا عند قوله: ({ازْدُجِرَ} استُطِيرَ جنونًا) لكان أولى وأرتب.
          (ص) {كُفِرَ} فَعَلْنَا بِهِ وَبِهِمْ مَا فَعَلْنَا جَزَاءً لِمَا صُنِعَ بِنُوحٍ ◙ وَأَصْحَابِهِ.
          (ش) وهذا أيضًا قد مرَّ عن قريبٍ، وهو قوله: ({لِّمَن كَانَ كُفِرَ}[القمر:14] يقول: كُفِرَ له جزاءً مِنَ الله)، وقد مرَّ الكلام فيه، وتكراره لا يخلو عن فائدةٍ على ما لا يخفى، ولكن لو ذكره لكان أصوب وأحسن.
          قوله: ({كُفِرَ}) مِن كُفران النعمة، والمكفور هو نوحٌ ◙ ، وقومه كافرون الأيادي والنِّعَم، وقيل: معنى {كُفِر}: جحد.
          قوله: (فَعَلْنَا) حكايةً عن الله تعالى، والضمير في (بِهِ) يرجع إلى نوحٍ ◙ ، وفي (بِهِمْ) إلى قومه، والذي فَعَله نَصْرُهُ إيَّاه وإجابةُ دعائه، والذي فَعَلَ بقومه غَرْقُه إيَّاهم.
          قوله: (جَزَاءً) أي: لأجل الجزاء لما صُنِع؛ أي: لأجل صنعهم لنوحٍ ◙ وقومه مِنَ الإساءة والشَّتْم والضرب / وغير ذلك مِنَ الأذى.
          قوله: (لِمَا صُنِعَ) اللَّام فيه مكسورةٌ، و(صُنِعَ) على صيغة المجهول.
          (ص) {مُسْتَقِرٌّ} عَذَابٌ حَقٌّ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ}[القمر:38] وفسَّره بقوله: (عَذَابٌ حَقٌّ) وهكذا قال الفَرَّاء، وروى عبد بن حُمَيدٍ عن قتادة: استقرَّ بهم _أي: العذاب_ إلى نار جهنم.
          قوله: {وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ} أي: العذاب {بُكْرَةً} أي: وقت الصُّبْحِ، وفي التفسير: {عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ} أي: دائمٌ عامُّ استقرَّ بهم حَتَّى يفضي بهم إلى عذاب الآخرة.
          (ص) الأَشَرُ: الْمَرَحُ وَالتَّجَبُّرُ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ}[القمر:25] و{سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ}[القمر:26] وفسَّره بقوله: (الْمَرَحُ وَالتَّجَبُّرُ)، وهكذا فسَّره أبو عبيدة وغيرُه.