عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

الزمر
  
              

          ░░░39▒▒▒ (ص) سُورَةُ الزُّمَرِ
          (ش) أي: هذا في تفسير بعض (سورة الزُّمَر).
          قال أبو العَبَّاسِ: هي مكِّيَّةٌ إلَّا آيتان مدنيَّتان: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا}[الزمر:35] نزلت [في وحشيِّ بن حَرْبٍ، و{مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ}[الزمر:67] وقال السخاويُّ: نزلت] بعد (سورة سبأ) وقبل (سورة المؤمن).
          وهي أربعة آلاف وسبعُ مئةٍ وثمانية أحرفٍ، وألفٌ ومئةٌ واثنان وسبعون كلمةً، وخمسٌ وسبعون آيةً.
          (ص) ♫
          (ش) لم تثبت البسملة إلَّا لأبي ذرٍّ.
          (ص) وَقَالَ مُجاهِدٌ: {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ} يُجَرُّ عَلَى وَجْهِهِ فِي النَّارِ، وهو قَوْلُهُ: {أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا
          (ش) أي: قال مجاهدٌ في قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الآيَةَ[الزمر:24].
          قوله تعالى: ({أَفَمَنْ يَتَّقِي}) يقال: اتَّقاه بدرقته: استقبله بها فوقى بها نفسه، واتَّقاه بيده، وتقديره: أفمن يتَّقي بوجهه سوء العذاب كمن أَمِنَ العذاب؟ فحذف الخبر، و{سُوءَ الْعَذَابِ} شدَّته، وعن مجاهد: يُجَرُّ على وجهه في النار، [وأشار البُخَاريُّ إلى هذا بقوله: (يُجَرُّ عَلَى وَجْهِهِ فِي النَّارِ)، وأشار بقوله: (وَهُوَ قَوْلُهُ: ({أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ}) ]... إلى آخره، إلى أنَّ قوله: {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ} يُجَر عَلَى وَجْهِهِ فِي النَّارِ) مثل قوله: {أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ}... إلى آخره، ووجه التشبيه: بيانُ حاله في أنَّ ثَمَّ محذوفًا؛ / تقديره: أفمن يتَّقي بوجهه سوء العذاب كمَن أَمِن العذاب، كما ذكرناه الآن، ولفظ: {يُجَرُّ} بالجيم عند الأكثرين، وفي رواية الأصيليِّ وحدَه بالخاء المُعْجَمة.
          (ص) {غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} لَبْسٍ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}[الزمر:28] وفسَّر (العوج) باللَّبس، وهو الالتباس، وهذا تفسيرٌ باللَّازم؛ لأنَّ الذي فيه لَبْسٌ يستلزم العوجَ في المعنى، وأخرج ابن مردويه مِن وجهين ضعيفين عن ابن عَبَّاسٍ في قوله: {غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} قال: ليس بمخلوقٍ.
          (ص) {وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ} وَيُقَالُ: صَالِحًا، مَثَلٌ لإلِهِهِمِ الْبَاطِلِ وَالإِلَهِ الْحَقِّ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا}[الزمر:29].
          قوله: ({وَرَجُلًا}) عطفٌ على ({رَجُلًا}) الأَوَّل، وهو منصوبٌ بنزع الخافض؛ أي: ضرب الله مثلًا لرجلٍ، أو في رجلٍ.
          قوله: ({سَلَمًا}) بفتح السِّين، وهو قراءة العامَّة، وهو الذي لا تنازُعَ فيه، وقرأ ابن كثيرٍ وأبو عَمْرٍو ويعقوب: {سالِمًا} وهو الخالص، ضدُّ المشرك.
          قوله: (صَالِحًا) في رواية الكُشْميهَنيِّ: <خالصًا> وسقطت هذه اللَّفظة للنَّسَفِيِّ.
          قوله: (مَثَلٌ) خبر مبتدأ محذوفٍ؛ أي: هذا مَثَلٌ لإلههم الْبَاطِلِ، وَالإِلَهِ الْحَقِّ، والمعنى: هل تستوي صفاتُهما وتمييزهما؟ وقال الثعلبيُّ: هذا مَثَلٌ ضربه الله للكافر الذي يعبد آلهةً شتَّى، والمؤمن الذي لا يعبد إلَّا الله ╡ .
          قوله: {مُتَشَاكِسُونَ} مختَلِفون متنازِعون متشاحُّون سيِّئةٌ أخلاقُهم.
          (ص) {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} الأَوْثَانِ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ} أي: يخوِّفك المشركون بمضرَّة الأوثان، قالوا: إنَّك تعيب آلهتنا وتذكرها بسوءٍ، لتكفُّنَّ عن ذكرها أو تصيبُك بسوءٍ.
          قوله: (الأَوْثَانَ) ويروى: <أي: بالأوثان> وهذا أولى.
          (ص) (خَوَّلْنَا) : أَعْطَيْنَا.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا}[الزمر:49] وفسَّره بقوله: (أَعْطَيْنَا)، وقال أبو عُبَيْدةَ: كلُّ مالِ أعطيتَه فقد خوَّلتَه.
          (ص) {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ} الْقُرْآنُ {وَصَدَّقَ بِهِ} الْمُؤْمِنُ يَجِيءُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ: هَذَا الَّذِي أَعْطَيْتَنِي عَمِلْتُ بِمَا فِيهِ.
          (ش) أشار به إلى قوله ╡ : {وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} وفسَّر قوله: ({وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ}) أنَّه (الْقُرآنُ)، وقال السُّدِّيُّ: {الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ} جبريل ◙ ، جاء بالقرآن {وَصَدَّقَ بِهَ} يعني: مُحَمَّدًا صلعم ، تلقَّاه بالقَبول، وقال ابن عَبَّاسٍ: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ} يعني: رسول الله صلعم ، جاء بلا إله إلَّا الله {وَصَدَّقَ بِهَ} هو أيضًا رسول الله صلعم ، بلَّغه إلى الخلق، وعن عليِّ بن أبي طالبٍ وأبي العالية والكلبيِّ: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ} رسول الله صلعم ، {وَصَدَّقَ بِهَ} أبو بكرٍ ☺ ، وعن قتادة ومقاتلٍ: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ} رسول الله صلعم ، {وَصَدَّقَ بِهَ} المؤمنون، وعن عطاءٍ: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ} الأنبياء ‰ ، {وَصَدَّقَ بِهَ} الأتباع، فعلى هذا يكون {الذي} يعني (الذين) كما في قوله تعالى: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا}[التوبة:69].
          قوله: (يَقُولُ: هَذَا الَّذِي...) إلى آخره في رواية النَّسَفِيِّ لا غير.
          (ص) {مُتَشَاكِسُونَ} الشَّكِسُ: الْعَسِرُ لَا يَرْضَى بِالإِنْصَافِ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ}[الزمر:92] [أي: مختلفون، وقد ذكرناه الآن.
          قوله: (الشَّكِسُ) أشار به إلى أنَّهُ مِن مادَّة ({مُتَشَاكِسُونَ}) ]
غير أنَّ المذكور في القرآن مِن (باب التَّفاعُل) للمشاركة بين القوم، والشَّكِس: مفردٌ صفةٌ مشبَّهةٌ، قال في «الباهر»: رجلٌ شَكْسٌ؛ بالفتح والتسكين: صعب الخُلُق، وقومٌ شُكْسٌ _بالضمِّ_ مثال: رجلٌ صَدْقٌ وقومٌ صُدْقٌ، وقيل: الشِّكْس، بالكسر والإسكان، والشَّكِس؛ بالفتح وكسر الكاف: السيِّئُ الخُلُق، يقال: شَكس شكسًا وشكاسة، وفسَّر البُخَاريُّ (الشَّكِس) بقوله: (الْعَسِرُ لَا يَرْضَى بِالإِنْصَافِ) / و(العَسِر) مثل: (الحَذِر) صفةٌ مشبَّهةٌ، ويروى: <العسير> على وزن (فعيل)، وفي بعض النُّسَخ: <وقال غيره: الشكس>، قال صاحب «التلويح»: يعني غير مجاهدٍ، فكأنَّه _والله أعلم_ يريد بـ(الغير) عبد الرَّحْمَن بن زيد بن أسلم، فإن الطَّبَريَّ رواه عن يونس عن ابن وَهْبٍ عنه.
          (ص) {وَرَجُلًا سِلْمًا}، وَيُقَالُ: {سَالِمًا} صَالِحًا.
          (ش) ليس هذا بمذكورٍ في غالبِ النُّسَخ؛ لأنَّه كالمكرَّر لأنَّه ذُكِر عن قريبٍ، ولكن يمكن أن يقال: إنَّهُ أشار به إلى أنَّ سين {سِلْمًا} جاء فيها الفتح والكسر، فيكون أحدُهما إشارةً إلى الكسر، والآخر إلى الفتح، وقال الزجَّاج: {سَلَمًا} و{سِلْمًا} مصدران وُصِفَ بهما على معنى: ورجُلًا ذا سلمٍ.
          (ص) {اشْمَأَزَّتْ} نَفَرَتْ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} الآيَةَ[الزمر:45]، وفسَّره بقوله: (نَفَرَتْ) وكذا رواه الطبريُّ عن مُحَمَّدٍ: حَدَّثَنَا أحمد: حَدَّثَنَا أسباط عن السُّدِّيِّ، وعن مجاهدٍ قال: انقبضت، وعن قتادة: أي: كفرت قلوبُهم واستكبرت.
          (ص) {بِمَفَازَتِهِمْ} مِنَ الْفَوْزِ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ}[الزمر:61]؛ أي: فوزهم، وهو مصدرٌ ميميٌّ، قرأ أهل الكوفة إلَّا حفصًا بالألف على الجمع، والباقون بغير الألف على الواحد.
          (ص) {حَافِّينَ} مُطِيفِينَ بِحِفَافَيْهِ بِجَوَانِبِهِ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ}[الزمر:75] وفسَّر ({حَافِّينَ}) بقوله: (مُطِيفِينَ) مِن الإطافة، وهو الدوران حول الشيء.
          قوله: (بِحِفَافَيْهِ) بكسر الحاء المُهْمَلة وبالفاء المُخَفَّفَة، وبعد الألف فاءٌ أخرى، تثنية: حِفَاف، وهو الجانب، وفي رواية المُسْتَمْلِي: <بجانبيه> وفي رواية كريمة والأصيليِّ: <بجوانبه> أشار إليه بقوله: (بِجَوَانِبِهِ) وهو أيضًا مثل التفسير لما قبله، وفي رواية النَّسَفِيِّ: <بحافته>.
          (ص) {مُتَشَابِهًا} لَيْسَ مِنَ الاِشْتِبَاهِ، وَلَكِنْ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا فِي التَّصْدِيقِ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا} الآية [الزمر:23] وأشار إلى أنَّ معنى: ({مُتَشَابِهًا} لَيْسَ مِنَ الاِشْتِبَاهِ) الذي بمعنى: الالتباس والاختلاط، ولكن معناه: أنَّهُ (يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا فِي التَّصْدِيقِ) ؛ لأنَّ القرآن يفسِّر بعضُه بعضًا، وقيل: في تصديق الرسول صلعم ، في رسالته بسبب إعجازه، وكذا رواه ابن جريرٍ عن ابن حُمَيدٍ عن جريرٍ، عن يعقوب، عن جعفرٍ، عن سعيد بن جُبَيرٍ.