عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب جزاء الصيد
  
              

          (ص) ♫
          ░░28▒▒ بابُ جَزَاءِ الصَّيْدِ وَنَحْوِهِ وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}[المائدة:95].
          (ش) هكذا وقع في رواية أبي ذرٍّ بالبسملة أوَّلًا، ثُمَّ بالباب المذكور، ثُمَّ بقوله تعالى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ} أي: هذا بابٌ في بيان جزاء الصيد إذا باشر المحرمُ قتلَه، وأشار بقوله: (وَنَحْوِهِ) أي: ونحو جزاء الصيد إلى تنفير صيد الحرم، وإلى عضد شجره، وغير ذلك مِمَّا نبيِّنه بابًا بابًا، ولغير أبي ذرٍّ هكذا: <بابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ. أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}[المائدة:95-96]>.
          سَرَدَ البُخَاريُّ من (سورة المائدة) من قوله تعالى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ}... إلى قوله تعالى: {إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} ولم يذكر فيه حديثًا؛ إمَّا اكتفاءً بما في الذي ذكره، وإمَّا أنَّهُ لم يظفر بحديثٍ مرفوعٍ في جزاء الصيد على شرطه.
          ثُمَّ الكلام ههنا على أنواع:
          الأَوَّل: في سبب النزول:
          قال مقاتلٌ في «تفسيره»: كان أبو اليسر _واسمه عَمْرو بن مالك الأنصاريُّ_ محرمًا في عام الحديبية بعمرةٍ، فقتل حمار وحشٍ، فنزلت فيه: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ}، وقال ابن إسحاق وموسى بن عقبة والواقديُّ وآخرون: نزلت في كعب بن عَمْرو، وكان محرمًا في عام الحديبية، فقتل حمار وحشٍ.
          النوع الثاني: في المعنى والإعراب:
          قوله: ({وَأَنتُمْ حُرُمٌ}) جملة اسْميَّة وقعت حالًا، و(الحُرُم) جمع (حرام)، كـ(رُدُح) جمع (رَدَاح)، يقال: رجلٌ حرامٌ وامرأةٌ حرامٌ.
          قوله: ({مُتَعَمِّدًا}) نصب على الحال، والتعمُّد أن يقتله وهو ذاكرٌ لإحرامه، وعالمٌ بأنَّ ما يقتله مِمَّا حُرِّم عليه قتله.
          قوله: ({فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ}) برفع {جَزَاءٌ} و{مِثْلُ} جميعًا؛ بمعنى: فعليه جزاءٌ يماثلُ ما قتل مِنَ الصيد، وقرأ بعضُهم بالإضافة؛ أعني: بإضافة {جزاءُ} إلى قوله: {مِثْلِ}، وحكى ابن جَريرٍ عن ابن مسعود أنَّهُ قرأها: {فَجَزَاؤهُ مِّثْلُ مَا قَتَلَ}، وقال الزَّمَخْشَريُّ: وقُرِئ على الإضافة، وأصلُه: فجزاءٌ مثلَ ما قتل، بنصب «مثل» / بمعنى: فعليه أن يجزيَ مثلَ ما قَتَل، ثُمَّ أُضيفَ؛ كما تقول: عجبتُ من ضربٍ زيدًا، ثُمَّ: مِن ضَرْبِ زيدٍ، وقرأ السلميُّ على الأصل، وقرأ مُحَمَّد بن مقاتل: {فجزاءً مثلَ ما قتل} بنصبهما؛ بمعنى: فليجْزِ جزاءً مثلَ ما قتل.
          قوله: ({مِنَ النَّعَمِ}) وهي الإبل والبقر والغنم، فإنِ انفردت الإبلُ وحدَها قيل لها: نَعَمٌ، قال الفَرَّاء: هو ذكر لا يؤنَّث، وقرأ الحسن: {مِنَ النَّعْمِ} بسكون العين، استثقَلَ الحركة على حرف الحَلق فسكَّنه.
          قوله: ({يَحْكُمُ بِهِ}) أي: بالمثل.
          قوله: ({ذَوَا عَدْلٍ}) يعني: حكمان عادلان مِنَ المسلمين، و{ذَوَا} تثنية (ذو) بمعنى صاحب.
          قوله: ({هَدْيًا}) حالٌ عن {جزاء} فيمن وصفه بـ{مثل}؛ لأنَّ الصفة خصَّصته فقرَّبته مِنَ المعرفة، أو بدلٌ عن {مثل} فيمن نصبه، أو عن محلِّه فيمن جرَّه، ويجوز أن ينتصب حالًا عن الضمير في {به}، و(الهديُ) ما يهدى إلى الحرم مِنَ النَّعَم.
          قوله: ({بَالِغَ الْكَعْبَةِ}) صفة لـ{هَدْيًا}، ولا يُمنَع من ذلك؛ لأنَّ إضافته غير حقيقيَّة، ومعنى بلوغه الكعبة أن يُذبَح بالحرم.
          قوله: {أَوْ كَفَّارَةٌ}) عطفٌ على {فَجَزَاءٌ} أي: فعليه كفَّارة، وارتفاعه في الأصل على الابتداء، وخبره مُقدَّمًا مُقدَّرٌ.
          قوله: ({طَعَامُ مَسَاكِينَ}) مرفوعٌ على أنَّهُ خبر مبتدأ محذوفٍ؛ أي: هي طعام مساكين، ويجوز أن يكون بدلًا مِن {كفَّارة} أو عطف بيان، وقرئ: {كَفَّارَةُ طَعَامِ مَسَاكِينَ} بالإضافة، كأنَّه قيل: أو كفَّارة مِن طعامِ مساكين، كقولك: خاتمُ فضَّة، وقرأ الأعرج: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسْكِينَ} بالإفراد؛ لأنَّه واحدٌ دالٌّ على الجنس.
          قوله: ({أَو عَدْلُ ذَلِكَ}) عطفٌ على ما قبله، وقُرِئ: {أو عِدل ذلك} بكسر العين، والفرق بينهما أنَّ (عَدل الشيء) بالفتح: ما عادله من غير جنسه؛ كالصوم والإطعام، و(عِدله) بالكسر: ما عُدِل به في المقدار، ومنه: عِدلَا الحمل؛ لأنَّ كلَّ واحد منهما عُدِل بالآخر حَتَّى اعتدلا، كأنَّ المفتوح تسميةٌ بالمصدر، والمكسور بمعنى المفعول به، كالذِّبْح ونحوه، ونحوهما: الحَمل والحِمل.
          قوله: ({ذَلِكَ}) إشارةٌ إلى الطعام.
          قوله: ({صِيَامًا}) نصب على التَّمييز لـ(العدل) ؛ كقولك: لي مثلُه رجلًا.
          قوله: ({لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ}) اللَّام تتعلَّق بقوله: {فَجَزَاء} أي: فعليه أن يجازيَ أو يكفِّر؛ ليذوقَ سوءَ عاقبة هتكِه لحرمة الإحرام، و(الوَبال) : الضَّرر والمكروه الذي يَنَال في العاقبة مَن عمِلَ سوءًا؛ لثقله عليه.
          قوله: ({عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ}) أي عمَّا سلف لكم مِنَ الصيد في حال الإحرام قبل أن تُراجِعوا رسول الله صلعم وتسألوه عن جوازه، وقيل: {عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ} في زمان الجاهليَّة لِمَن أحسن في الإسلام واتَّبع شرع الله ولم يرتكب المعصية.
          قوله: ({وَمَنْ عَادَ}) أي: إلى قتل الصيد وهو محرمٌ بعد نزول النهي عنه؛ ({فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ}).
          قوله: ({فَيَنتَقِمُ}) خبر مبتدأ محذوفٍ؛ تقديره: فهو ينتقمُ اللهُ مِنْهُ؛ فلذلك دخلت الفاء، ونحوه: {فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ}[الجن:13] يعني: ينتقم منه في الآخرة، وقال ابن جُرَيْج: قلت لعطاء: ما {عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ}؟ قال: عمَّا كان في الجاهليَّة، قال: قُلْت: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ}؟ قال: ومَن عاد في الإسلام؛ فينتقم الله منه، وعليه مع ذلك الكفَّارة، قال: قُلْت: فهل للعود مِن حدِّ تعلمه؟ قال: لا، قُلْت: ترى حقًّا على الإمام أن يعاقبه؟ قال: لا، هو ذنبٌ أذنبه فيما بينه وبين الله ╡ ، ولكن يفتدي، رواه ابن جرير، وقيل: معناه: {فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ} بالكفَّارة، قالهُ سعيد بن جُبَير وعطاءٌ.
          قوله: ({وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ}) يعني: ذو معاقبة لمن عصاه على معصيته إيَّاه.
          قوله: ({أُحِلَّ لَكُمْ}) أي: أُحِلَّ المأكول منه، وهو السمك وحده عند أبي حنيفة، وعند ابن أبي ليلى: جميع ما يُصَاد فيه، وعن ابن عَبَّاس في رواية وسعيد بن المُسَيَِّبِ وسعيد بن جبير في قوله: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} يعني: ما يُصَاد منه طريًّا {وطعامه} ما يتزوَّد منه مَلِيحًا يابسًا، وعن ابن عَبَّاس في المشهور عنه: صَيْدُه ما أُخِذ منه حيًّا، و{طَعَامُهُ} ما لَفَظَه ميِّتًا، وهكذا رُوِي عن أبي بكر الصِّدِّيق، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عُمَر، وأبي أيُّوب الأنصاريِّ ♥ ، وعِكرمة، وأبي سَلَمَةَ بن عبد الرَّحْمَن، وإبراهيم النَّخَعِيِّ، والحسن البَصْريِّ، وقال سفيان بن عُيَيْنَةَ عن عَمْرو بن دينار، عن عِكْرِمَة، عن أبي بكر الصِّديق ☺ أنَّهُ قال: {طعامه} كلُّ ما فيه، / رواه ابن جرير وابن أبي حاتم، وقال سعيد بن المُسَيَِّبِ: {طعامه} ما لُفِظَ حيًّا أو حُسِر عنه فمات، رواه ابن أبي حاتم، وقال ابن جرير: وقد ورد في ذلك خبرٌ _وبعضهم يرويه موقوفًا_ حَدَّثَنَا هَنَّاد بن السريِّ قال: حَدَّثَنَا عَبْدة بن سليمان عن مُحَمَّد بن عَمْرو: حَدَّثَنَا أبو سَلَمَةَ عن أبي هُرَيْرَة قال: قال رسول الله صلعم : {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ} قال: «طعامه ما لفظه ميِّتًا»، ثُمَّ قال: وقد وقفه بعضهم على أبي هُرَيْرَة.
          قوله: ({مَتَاعًا لَّكُمْ}) نصب على أنَّهُ مفعولٌ له؛ أي: أُحِلَّ لكم لأجل التمتُّع لكم، تأكلونه طريًّا ولسيَّارتكم يتزوَّدونه قديدًا، كما تزوَّد موسى ◙ الحوت في مسيره إلى الخضر ◙ ، و(السَّيَّارَةُ) جمع (سيَّار)، وهم المسافرون، وكان بنو مدلج ينزلون سيف البحر، فسألوه عمَّا نضب عنه الماء مِنَ السمك، فنزلت قوله: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ}[المائدة:96] {صيد البرَّ} ما يفرِّخ فيه وإن كان يعيش في الماء في بعض الأوقات كطير الماء.
          قوله: ({مَا دُمْتُمْ حُرُمًا}) أي: ما دمتم مُحرِمين؛ أي: في حال إحرامكم يحرم عليكم الاصطياد، وقرأ ابن عَبَّاس: {وحَرَّم عليكم صيدَ البرِّ} على بناء الفاعل ونصب (الصيد) أي: حرَّم اللهُ عليكم، وقرئ: {ما دِمتُم} بكسر الدال من (دام يَدام).
          قوله: ({وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}) أي: خافوا الله الذي إليه تجمعون يوم القيامة فيجازيكم بحسب أعمالكم.
          النوع الثالث: في استنباط الأحكام وبيان مذاهب الأئِمَّة في هذا الباب، وهو على وجوه:
          الأَوَّل: في قتل الصيد في حالة الإحرام، وهو حرامٌ بلا خلاف:
          ويجب الجزاء بقتله؛ لقوله تعالى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ} وسواء في ذلك كان القاتل ناسيًا أو عامدًا، أو مبتدئًا في القتل أو عائدًا إليه؛ لأنَّ الصيد مضمونٌ بالإتلاف كغرامة الأموال، فيستوي فيه الأحوال، وقيَّد العمديَّة في الآية المذكورة، إمَّا لأنَّ مورد النَّصِّ فيمن تعمَّد، أو لأنَّ الأصل فعل المتعمِّد، والخطأ ملحقٌ به للتغليظ، قال الزُّهْريُّ: نزل الكتاب بالعمد وجاءت السُّنَّة بالخطأ، وقال ابن أبي حاتم: حَدَّثَنَا أبو سعيد الأشجُّ: حَدَّثَنَا ابن عُلَيَّةَ عن أيُّوب قال: نُبِّئت عن طاوُوس قال: لا يُحكَم على مَن أصاب صيدًا خطأً، إِنَّما يُحكَم على من أصابه متعمِّدًا، وهو مذهبٌ غريبٌ وهو متمسِّك بظاهر الآية، وبه قال أهل الظاهر وأبو ثور وابن المنذر وأحمد في رواية، وقال مجاهد: المراد بالمتعمِّد القاصد إلى قتل الصيد الناسي لإحرامه، فأَمَّا المتعمِّد لقتل الصيد مع ذكره لإحرامه فذاك أمره أعظم مِن أن يُكفَّر، وقد بطل إحرامه، رواه ابن جَرير عنه من طريق ابن أبي نَجِيح وليثُ بن أبي سُلَيم وغيرهما عنه، وهو قولٌ غريبٌ أيضًا، وقال الزُّهْريُّ: إن قتله متعمِّدًا قيل له: هل قتلتَ قبله شيئًا مِنَ الصيد؟ فإن قال: نعم؛ لم يُحْكَم عليه، وقيل له: اذهب فينتقم الله منك، وإن قال: لم أقتل حُكِم عليه، وإن قتل بعد ذلك لم يُحْكَم عليه، ويُمْلأ ظهره وبطنه ضربًا وَجيعًا، وبذلك حكم النَّبِيُّ صلعم في صيدِ وجٍّ، وادٍ بالطائف، والذي عليه الجمهور ما ذكرناه.
          الوجه الثاني: في وجوب الجزاء في قوله: {فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ}:
          فقال مالك والشَّافِعِيُّ ومُحَمَّد بن الحسن: المراد بالآية إخراج مثل الصيد المقتول مِنَ النعم إن كان له مثلٌ، ففي النَّعامة بدنةٌ، وفي بقر الوحش وحماره بقرةٌ، وفي الغزال عنزةٌ، وفي الأرنب عناقٌ، وفي اليَربوع جفرةٌ، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: الواجب القيمة، فإن كان له مثلٌ ثَمَّ؛ يشتري بتلك القيمة هديٌ أو طعامٌ، أو يتَصَدَّق بقيمته، وقال ابن كثير في «تفسيره» محتجًّا للشافعيِّ ومَن معه: وفي قوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} على كلٍّ مِنَ القراءتين دليلٌ لِما ذهب إليه مالكٌ والشَّافِعِيُّ وأحمد والجمهور مِن وجوب الجزاء من مثل ما قتله المحرم إذا كان له مثلٌ مِنَ الحيوان الإنسيِّ، خلافًا لأبي حنيفة حيث أوجب القيمة، سواء كان الصيد المقتول مثليًّا أو غير مثليٍّ، وهو مُخَيَّرٌ؛ إن شاء تصدَّق بثمنه، وإن شاء اشترى به هديًا، والذي حكم به الصحابة في المثليِّ أولى بالاتِّباع، فَإِنَّهُم حكموا في النعامة ببدنةٍ، وفي بقر الوحش ببقرةٍ، وفي الغزال / بعنزٍ، وأَمَّا إذا لم يكن الصيد مثليًّا فقد حكم ابن عَبَّاس فيه بثمنه يُحمَل إلى مكَّة، رواه البَيْهَقيُّ، وروى مالك في «الموطَّأ»: أخبرنا أبو الزُّبَير عن جابر: أنَّ عمر ☺ قضى في الضبع بكبشٍ، وفي الغزال بعنزٍ، وفي الأرنب بعناقٍ، وفي اليربوع بجفرةٍ، انتهى.
          وعن مالك رواه الشَّافِعِيُّ في «مسنده»، وعبدُ الرزَّاق في «مصنَّفه»، وآخَرُ رواه الشَّافِعِيُّ ومن جهته البَيْهَقيُّ في «سننه» عن سعيد بن سالم، عن ابن جُرَيْج عن عطاء الخراسانيِّ: أنَّ عمر وعثمان وعليًّا وزيد بن ثابت وابن عَبَّاس ومعاوية قالوا: في النعامة يقتلها المحرم بدنةٌ مِنَ الإبل، وروى الشَّافِعِيُّ في «مسنده» وعبد الرزَّاق في «مصنَّفه» قالا: أخبرنا ابن عُيَينة عن عبد الكريم الجزريِّ، عن أبي عبيدة، عن أبيه عبد الله بن مسعود: أنَّهُ قضى في اليربوع بجفرةٍ، وروى عبد الرزَّاق في «مصنَّفه»: أخبرنا إسرائيل وغيره عن أبي إسحاق عن الضَّحَّاك بن مُزَاحم عن ابن مسعود قال: في البقرة الوحشيَّة بقرةٌ، وروى عبد الرزَّاق أيضًا: أخبرنا هُشَيم عن منصور عن ابن سِيرِين أنَّ عمر ☺ أمر مُحرِمًا أصاب ظبيًا يذبح شاةً عفراءَ، وروى إبراهيم الحربيُّ في كتاب «غريب الحديث»: حَدَّثَنَا عبد الله بن صالح: أخبرنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق عن سعيد بن جُبَير عن ابن عَبَّاس قال: في اليربوع حملٌ، ثُمَّ نقل عن الأصمعيِّ: أنَّ الحمل ولد الضأن الذكر، وروى البَيْهَقيُّ من حديث ابن عَبَّاس: في حمامة الحرم شاةٌ، وفي بيضتين درهمٌ، وفي النعامة جزورٌ، وفي البقرة بقرةٌ، وفي الحمار بقرةٌ.
          واحتجَّ أبو حنيفة فيما ذهب إليه بالمعقول والأثر أيضًا، أَمَّا المعقول؛ فهو أنَّ الحيوان غير مضمونٍ بالمثل فيكون مضمونًا بالقيمة كالمملوك، ومثلُ الحيوان قيمتُه؛ لأنَّ (المثل) المُطْلَق هو المثل صورةً ومعنًى، فإذا تعذَّر ذلك حُمِل على المثل المعنويِّ وهو القيمة، وأَمَّا الأثر؛ فهو ما رُوِي عن ابن عَبَّاس أنَّهُ فسَّر المثل بالقيمة، فحُمِل على المثل معنًى؛ لكونه معهودًا في الشرع، يوضِّحه أنَّ المماثلة بين الشيئين عند اتَّحاد الجنس أبلغ منه عند اختلاف الجنس، فإذا لم تكن النعامة مثلًا للنعامة كيف تكون البدنة مثلًا للنعامة؟ والمثل مِنَ الأسماء المشتركة، فمن ضرورة كون الشيء مِثلًا لغيره أن يكون ذلك الغير مِثلًا له، ثُمَّ لا تكون النعامة مثلًا للبدنة عند الإتلاف، فكذلك لا تكون البدنة مثلًا للنعامة، وإذا تعذَّر اعتبار المماثلة صورةً؛ وجب اعتبارها بالمعنى، وهو القيمة، ولأنَّ القيمة أُرِيدت بهذا النصِّ في الذي لا مثل له بالإجماع، فلا يبقى غيره مرادًا؛ لأنَّ المثل مشترك، والمشترك لا عموم له؛ فافهم فَإِنَّهُ دقيقٌ.
          وأَمَّا الذي رواه الشَّافِعِيُّ _ومن جهته البَيْهَقيِّ_ فضعيفٌ ومنقطعٌ؛ لأنَّ عطاءً الخراسانيَّ فيه مقالٌ، ولم يدرك عمر ولا عثمان ولا عليًّا ولا زيد بن ثابت وابنَ عَبَّاس ومعاوية ♥ ؛ لأنَّ عطاءً الخراسانيَّ وُلِدَ سنة خمسين _قالهُ ابن معين وغيره_ وكان في زمن معاوية صبيًّا، ولم يثبت له سماع مِن ابن عَبَّاس مع احتماله، فإنَّ ابن عَبَّاس توفِّي سنة ثمان وستِّين، وأَمَّا الذي رواه أبو عبيدة عن أبيه عبد الله بن مسعود فَإِنَّهُ لم يسمع مِن أبيه شيئًا.
          فَإِنْ قُلْتَ: قال ابن جَرير: حَدَّثَنَا هَنَّاد وأبو هشام الرفاعيُّ قالا: حَدَّثَنَا وكيع بن الجرَّاح عن المسعوديِّ عن عبد الملك بن عُمَيْر عن قَبِيصَة بن جابر قال: خرجنا حجَّاجًا، فكنَّا إذا صلَّينا الغداة اقتدنا رواحلنا نتماشى نتحدَّث، قال: فبينما نحن ذات غداةٍ إذ سنح لنا ظبيٌ _أو برح_ فرماه رجلٌ كان معنا بحجرٍ، فما أخطأ حَشاه، فركب ردعه ميِّتًا، قال: فعظَّمنا عليه، فلمَّا قدمنا مكَّة خرجت معه حَتَّى أتينا عمر ☺ قال: فقصَّ عليه القصَّة، قال: وإذا إلى جانبه رجلٌ كأنَّ وجهه قلب فضَّة _يعني: عبد الرَّحْمَن بن عوف_ فالتفتَ إلى صاحبه فكلَّمه، ثُمَّ أقبل على الرجل فقال: أعمدًا قتلته أم خطأً؟ قال الرجل: لقد تعمَّدت رميه وما أردت قتله، فقال عمر ☺ : ما أراك إلَّا قد أشركت بين العمد والخطأ، اعمد إلى شاة فاذبحها فتصدَّق بلحمها واشْوِ إهابها، / قال: فقمنا من عنده، فقلت لصاحبي: أيُّها الرجل؛ عظِّم شعائر الله، فما درى أميرُ المؤمنين ما يُفتيكَ حَتَّى سأل صاحبه، اعمد إلى ناقتك فانحرها، فلعلَّ ذلك، قال: فتبعته، ولا أذكر الآية من سورة المائدة: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ} قال: فبلغ عمرَ مقالتي، فلم يفجأنا منه إلَّا ومعه الدِّرَّة، قال صاحبي: ضربًا بالدرَّة، أقتلتَ في الحرم، وسفَّهت الحكم؟ ثُمَّ أقبل عليَّ، فقُلْت: يا أمير المؤمنين؛ لا أحلُّ اليوم شيئًا يَحرُم عليك منِّي، قال: يا قَبِيصَة بن جابر؛ إنِّي لأراك شابَّ السنِّ، فَسيح الصدر، بيِّن اللِّسان، وإنَّ الشابَّ يكون فيه تسعةُ أخلاقٍ حسنةٌ وخلقٌ سيِّئٌ، فيُفْسِد الخلقُ السيِّئ الأخلاقَ الحسنة، فإيَّاك وعَثَراتِ الشباب.
          قُلْت: روى هُشَيم هذه القصَّة عن عبد الملك بن عُمَيْر عن قَبِيصَة بنحوه، وذكرها مرسلة عن عُمَر بن بَكْر بن عبد الله المزنيِّ ومُحَمَّد بن سِيرِين، ورواه مالك في «الموطَّأ» من حديث ابن سِيرِين مختصرًا.
          الوجه الثالث: في حُكْم الحَكَمَيْنِ فيه:
          قال مالك والشَّافِعِيُّ وأحمد ومُحَمَّد بن الحسن: الخيار في تعيين الهدي أو الإطعام أو الصيام إلى الحكمين العدلين، فإذا حكما بالهدي فالمعتبر فيما له مثلٌ ونظيرٌ من حيث الخلقة ما هو مثل، كما ذكرناه، والمعتبر فيما لا مثل له القيمة لقوله تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا} نصب {هديًا} لوقوع الحكم عليه، وفي وجوب المثل فيما له مثل قوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} أوجب المثل مِنَ النَّعَم، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: الخيار للقاتل في أن يشتري بها؛ يعني: بقيمة المقتول؛ لأنَّ الوجوب عليه، كما في اليمين، فالخيار إليه، وحكمُ الحكمين لتقدير القيمة، و{هَدْيًا} نصب على الحال؛ أي: في حال الإهداء.
          فَإِنْ قُلْتَ: إذا كان القاتل أحد الحكمين هل يجوز؟ قُلْت: يجوز عند الشَّافِعِيِّ وأحمد، وعند مالك: لا يجوز؛ لأنَّ الحاكم لا يكون محكومًا عليه في صورةٍ واحدةٍ، قال ابن أبي حاتم: حَدَّثَنَا أبي: حدَّثنا أَبُو نُعَيْم الفضل بن دُكَيْن: حَدَّثَنَا جعفر _هو ابن برقان_ عن ميمون بن مِهْرَان: أنَّ أعرابيًّا أتى أبا بكر ☺ قال: قتلتُ صيدًا وأنا محرمٌ، فما ترى عليَّ مِنَ الجزاء؟ فقال أبو بكر لأُبَيِّ بْنُ كعب _وهو جالس عنده_: ما ترى فيها؟ قال: فقال الأعرابيُّ: أتيتك وأنت خليفة رسول الله صلعم أسألك، فإذا أنت تسأل غيرك؟ فقال أبو بكر ☺ : وما تُنْكِر؟ يقول الله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُم} فشاورت صاحبي حَتَّى إذا اتَّفقنا على أمرٍ أمرناك به، وهذا إسناد جَيِّد لكنَّه منقطعٌ بين ميمون وبين الصِّدِّيق، ومثله يحتمل ههنا، وقال ابن جرير: حَدَّثَنَا وكيع: حَدَّثَنَا ابن عُيَينة عن مُخارِق عن طارق قال: أوطأ أربَدُ ظبيًا، فقتله وهو محرم، فأتى عمر ☺ ليحكمَ عليه، فقال عمر: احكُم معي، فحكما فيه جَدْيًا قد جمع الماء والشجر.
          قُلْت: مُخارِق هو ابن خليفة الأحمسيُّ الكوفيُّ، من رجال البُخَاريِّ والأربعة، وطارقٌ هو ابن شهاب الأحمسيُّ، أبو عبد الله الكوفيُّ، رأى النَّبِيَّ صلعم وأدرك الجاهليَّة، وروى عن النَّبِيِّ صلعم ، وغزا في خلافة أبي بكر وعمر ☻ ثلاثًا وثلاثين أو ثلاثًا وأربعين مِن غزوةٍ إلى سريَّةٍ، مات سنة اثنتين وثمانين مِنَ الهجرة، وقال يحيى بن مَعِين: مات سنة ثلاث وعشرين ومئة، وهو وَهَمٌ، روى له الجماعة.
          الوجه الرابع: في بيان الكفَّارة:
          إذا لم يجد المحرم مثل ما قتل مِنَ النعم، أو لم يكن الصيد المقتول مِن ذوات الأمثال، أو قلنا بالتخيير في هذا المقام بين الجزاء والإطعام والصيام، كما هو قول مالك وأبي حنيفة وأبي يوسف ومُحَمَّد، وأحد قولي الشَّافِعِيِّ، والمشهور عن أحمد؛ لظاهر {أو} بأنَّها للتخيير، والقول الآخر: أنَّها على الترتيب؛ فصورة ذلك: أن يعدل إلى القيمة فيُقوَّم الصيدُ المقتولُ عند مالك وأبي حنيفة وأصحابه وحمَّاد وإبراهيم، وقال الشَّافِعِيُّ: يُقوَّم مثلُه مِنَ النَّعَم لو كان موجودًا، ثُمَّ يُشتَرى به طعامٌ ويَتصدَّق به، فيُصدَّق / لكلِّ مسكينٍ مدٌّ منه عند الشَّافِعِيِّ ومالك وفقهاء الحجاز، واختاره ابن جرير، وقال أبو حنيفة وأصحابه: يُطعِم لكلِّ مسكين مدَّينِ، وهو قول مجاهد، وقال أحمد: مدٌّ من حنطة أو مدَّان من غيره، فإن لم يجد قلنا بالتخيير، صام عن إطعام كلِّ مسكينٍ يومًا، وقال ابن جرير: وقال آخرون: يصوم مكان كلِّ صاعٍ يومًا؛ كما في جزاء المترفِّه بالحلق ونحوه، واختلفوا في مكان هذا الإطعام؛ فقال الشَّافِعِيُّ: محلُّه الحرم، وهو قول عطاء، وقال مالك: يطعم في المكان الذي أصاب فيه الصيد أو أقرب الأماكن إليه، وقال أبو حنيفة: إن شاء أطعم في الحرم، وإن شاء في غيره.
          الوجه الخامس: في صيد البَحْر:
          [وقد ذكرنا في (فصل المعنى والإعراب) شيئًا من ذلك، وقد استدلَّ جمهور العلماء على حلِّ ميتة البحر] بالآية المذكورة، وبحديث العنبر على ما يجيء إن شاء الله تعالى، وقد احتجَّ بهذه الآية الكريمة مَن ذهب مِنَ الفقهاء إلى أنَّهُ يؤكل كلُّ دوابِّ البحر، ولم يستثن مِن ذلك شيئًا، وقد تَقَدَّمَ عن الصِّدِّيق أنَّهُ قال: طعامُه كلُّ ما فيه، وقد استثنى بعضُهم الضفادع وأباح ما سواها؛ لِما رواه الإمام أحمد وأبو داود والنَّسائيُّ من رواية ابن أبي ذئب عن سعيد بن خالد، عن سعيد بن المُسَيَِّبِ، عن عبد الرَّحْمَن بن عثمان التَّيميِّ: أنَّ رسول الله صلعم نهى عن قتل الضِّفدع، [وفي روايةٍ للنَّسائيِّ عن عَبْد الله بن عَمْرو قال: نهى رسول الله صلعم عن قتل الضِّفدع] وقال: «نقيقُها تسبيحٌ»، وقال آخرون: يؤكل من صيد البحر السمكُ، ولا يؤكل الضفدع، واختلفوا فيما سواها؛ فقيل: يؤكل سائرُ ذلك، وقيل: لا يؤكل، وهذه كلُّها وجوهٌ في مذهب الشَّافِعِيِّ، وقال أبو حنيفة: لا يؤكل ما مات في البحر كما لا يؤكل ما مات في البرِّ؛ لعموم قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}[المائدة:3].
          قُلْنا: استثنى منه الجراد؛ لقوله صلعم : «أُحلَّت لنا ميتتان ودمان، فأَمَّا الميتتان؛ فالحوت والجراد، وأَمَّا الدمان؛ فالكبد والطحال»، وقال التِّرْمِذيُّ: (باب ما جاء في صيد البحر للمُحرِم) حَدَّثَنَا أبو كُرَيب قال: حَدَّثَنَا وكيع عن حمَّاد بن سلمة، عن أبي المُهزِّم، عن أبي هُرَيْرَة قال: خرجنا مع رسول الله صلعم في حجٍّ أو عُمْرةٍ، فاستقبَلَنا رِجْلٌ من جراد، فجعلنا نضربه بأسياطنا وعصينا، فقال رسول الله صلعم : «كلوه فَإِنَّهُ من صيد البحر» قال: هذا حديث غريب، و(أبو المُهَزِّم) بِضَمِّ الميم وفتح الهاء وكسر الزاي المشدَّدة، اسمه يزيد بن سفيان، وقد تكلَّم فيه شعبة، وقال التِّرْمِذيُّ: وقد رخَّص قومٌ من أهل العلم للمُحرِم أن يصيد الجراد فيأكله، ورأى بعضهم عليه صدقةً إذا اصطاده أو أكله، رواه أبو داود وابن ماجه أيضًا.
          وقوله: (من صيد البحر) ظاهر أنَّهُ مِنَ البحر، وللعلماء فيه ثلاثة أقوال:
          الأَوَّل: أنَّهُ من صيد البحر، وهو قول كعب الأحبار، وقد روى مالك في «الموطَّأ» عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار: (أنَّ كعب الأحبار أمَّره عُمَر بن الخَطَّاب ☺ على ركبٍ مُحْرِمين، فمضوا حَتَّى إذا كانوا ببعض طريق مكَّة؛ مرَّت رِجْل من جرادٍ، فأفتاهم كعب أن يأخذوه فيأكلوه، فلمَّا قدموا على عمر ☺ ذكروا له ذلك، فقال له: ما حملك على أن أفتيتهم بهذا؟ قال: هو من صيد البحر، قال: وما يدريك؟ قال: يا أمير المؤمنين؛ والذي نفسي بيده؛ إن هو إلَّا نثرة حوت ينثره في كلِّ عام مَرَّتينِ)، واختُلِف في قوله: (نثرة حوت) فقيل: عطسته، وقيل: هو من تحريك النثرة، وهو طرف الأنف، قال شيخنا زين الدين: فعلى هذا يكون بالمُثَلَّثة، وهو المشهور، وعليه اقتصر صاحب «المشارق» وغيره، وأنَّه مِنَ الرمي بعنف، من قولهم في الاستنجاء: (ينثر ذكره إذا استبرأ مِنَ البول بشدَّة وعنف)، وأنَّ الجراد يطرحه من أنفه أو من دبره بعنف وشدَّة، وقيل: متولِّد من روث السمك.
          القول الثاني: أنَّهُ من صيد البرِّ يجب الجزاء بقتله، وهو قول عمر وابن عمر وابن عَبَّاس وعطاء بن أبي رَبَاح، وبه قال أبو حنيفة ومالك والشَّافِعِيُّ في قوله الصحيح / المشهور.
          والقول الثالث: أنَّهُ من صيد البرِّ والبحر، رواه سعيد بن منصور في «سننه» عن هُشَيم عن منصور عن الحسن.
          واختلف القائلون بأن الجراد من صيد البر وفيه الجزاء في مقدار الجزاء على أقوال:
          أحدها: في كلِّ جرادة تمرةٌ، وهو قول عمر وابن عمر، رواه سعيد بن منصور في «سننه» بسنده إليهما، وبه قال أبو حنيفة واختاره ابن العربيِّ.
          الثاني: أنَّ في الجرادة الواحدة قبضةٌ من طعامٍ، وهو قول ابن عَبَّاس، رواه سعيد بن منصور بسنده إليه، وبه قال مالك.
          والثالث: أنَّ في الواحدة درهمًا، وهو قول كعب الأحبار، قيل: ومن الدليل أنَّ الجراد نثرة الحوت ما رواه ابن ماجه: حدَّثني هارون بن عبد الله الجمَّال: حَدَّثَنَا هاشم بن القاسم: حَدَّثَنَا زياد بن عبد الله عن موسى بن مُحَمَّد بن إبراهيم عن أبيه عن جابر وأنس بن مالك: أنَّ رسول الله صلعم كان إذا دعا على الجراد، قال: «اللهمِّ أهلِكْ كباره واقتلْ صغاره، وأفسد بيضه، واقطع دابره، وخذ بأفواهه عن معايشنا وأرزاقنا، إنَّك سميع الدعاء»، فقال خالد: يا رسول الله؛ كيف تدعو على جندٍ من أجناد الله تعالى بقطع دابره؟ فقال: «إنَّ الجراد نثرة الحوت في البحر»، قال هاشم: قال زياد: فحدَّثني من رأى الحوت ينثره، تفرَّد به ابن ماجه.
          الوجه السادس: في صيد البرِّ:
          وهو حرام على المحرم؛ لأنَّه في حقِّه كالميتة وكذا في حقِّ غيره مِنَ المحرمين والمحلِّين عند مالك والشَّافِعِيِّ في قولٍ، وهو قول عطاء والقاسم وسالم، وبه قال أبو يوسف ومُحَمَّد، فإن أكله أو شيئًا منه؛ فهل يلزمه جزاءٌ ثانٍ؟ فيه قولان للعلماء؛ أحدهما: نعم، وإليه ذهب طائفةٌ، والثاني: لا جزاء عليه بأكله، نصَّ عليه مالكٌ، وقال أبو عمر: وعلى هذا مذاهب فقهاء الأمصار وجمهور العلماء، وقال أبو حنيفة: عليه قيمة ما أكل، وقال أبو ثور: إذا قتل المحرم الصيد فعليه جزاؤه، وحلالٌ أكلُ ذلك الصيد، إلَّا أن أكرهه للذي قتله، وإذا اصطاد حلالٌ صيدًا فأهداه إلى محرم؛ فقد ذهب جماعةٌ إلى إباحته مطلقًا، ولم يفصِّلوا بين أن يكون قد صاده من أجله أم لا، حكى أبو عمر هذا القول عن عُمَر بن الخَطَّاب وأبي هُرَيْرَة والزُّبَير بن العوام وكعب الأحبار ومجاهد وعطاء في رواية، وسعيد بن جُبَير، قال: وبه قال الكوفيُّون، قال ابن جَرير: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن عبد الله بن بَزِيع: حَدَّثَنَا بِشْر بن المفضَّل: حَدَّثَنَا سعيد عن قتادة: أنَّ سعيد بن المُسَيَِّبِ حدَّثه عن أبي هُرَيْرَة: أنَّهُ سُئِل عن لحم صيدٍ صاده حلالٌ؛ أيأكله المحرم؟ قال: فأفتاهم بأكله، ثُمَّ لقي عُمَر بن الخَطَّاب ☺ ، فأخبره بما كان مِن أمره، فقال: لو أفتيتَهم بغير هذا لأوجعتُ لك رأسك، وقال آخرون: لا يجوز أكلُ الصيد للمحرم بالكُلِّيَّة، ومَنَعوا من ذلك مطلقًا؛ لعموم الآية الكريمة، وقال عبد الرزَّاق عن معمرٍ عن ابن طاوُوس وعبد الكريم بن أبي أميَّة عن طاوُوس عن ابن عَبَّاس: أنَّهُ كرِهَ أكل لحم الصيد للمحرم، قال: وأخبرني معمرٌ عن الزُّهْريِّ عن ابن عمر: أنَّهُ كان يكره أن يأكل لحم الصيد على كلِّ حالٍ، قال أبو عمر: وبه قال طاوُوس وجابر بن زيد، وإليه ذهب الثَّوْريُّ وإسحاق ابن راهُوْيَه، وقد رُوِي نحوه عن عليِّ بن أبي طالب ☺ ، وقال مالك والشَّافِعِيُّ وأحمد وإسحاق في روايةٍ والجمهور: إن كان الحلال قد قصد للمحرم بذلك الصيد؛ لم يجز للمحرم أكلُه؛ لحديث الصَّعب بن جَثَّامة، على ما يأتي إن شاء الله تعالى، وإذا لم يقصده بالاصطياد يجوز له الأكل منه؛ لحديث أبي قتادة على ما يأتي إن شاء الله تعالى.