عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

سورة الحج
  
              

          ░░░22▒▒▒ (ص) سُورَةُ الْحَجِّ
          (ش) أي: هذا في تفسير بعض (سورة الحجِّ)، وذكر ابن مردويه عن ابن عَبَّاسٍ وابن الزُّبَير ♥ : أنَّهما قالا: نزلت (سورة الحج) بالمدينة، وقال مقاتلٌ: بعضُها مَكِّيٌّ أيضًا، وعن قتادة: أنَّها مَكِّيَّة، وعنه: مدنيَّةٌ غير أربع آياتٍ، وعن عطاءٍ: إلَّا ثلاث آياتٍ؛ منها: قوله: {هَذَانِ خَصْمَانِ}[الحج:19] وقال هبة بن سلامة: هي مِن أعاجيب سور القرآن؛ لأنَّ فيها مكِّيًّا ومدنيًّا، وسفريًّا وحضريًّا، وحربيًّا وسلميًّا، وليليًّا ونهاريًّا، وناسخًا ومنسوخًا.
          وهي خمسةُ آلاف وخمسةٌ وسبعون حرفًا، وألفٌ ومئتان وإحدى وتسعون كلمةً، وثمان وتسعون آيةً.
          (ص) ♫
          (ش) ثبتت البسملة للكلِّ.
          (ص) وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: {الْمُخْبِتِينَ} الْمُطْمَئِنِّينَ.
          (ش) أي: (قَالَ) سفيان (ابنُ عُيَيْنَةَ) [في قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ}[الحج:34] أي: (الْمُطْمَئِنِّينَ) كذا ذكره ابن عيينة] في تفسيره عن ابن جُرَيْجٍ عن مجاهدٍ، وقيل: المطمئنِّين بأمر الله، وقيل: المطيعين، وقيل: المتواضعين، وقيل: الخاشعين، وهو مِن الإخبات، والخَبت _بفتح أوَّله_ المطمئنُّ مِنَ الأرض.
          (ص) وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ}[الحج:52]أَلْقَى الشَّيْطَانُ / فِي حَدِيثِهِ، فَيُبْطِلُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ وَيُحْكِمُ آيَاتِهِ.
          (ش) أي: قال ابن عَبَّاسٍ في قوله ╡ : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} الآية، وهذا التعليق رواه أبو مُحَمَّد الرازيُّ عن أبيه: حَدَّثَنَا أبو صالح: حدَّثني معاوية، عن عليِّ بن أبي طلحة عنه، وقد تكلَّم المفسِّرون في هذه الآية أشياء كثيرةً، والأحسن منها ما قاله أبو الحسن بن عليِّ الطَّبَريُّ: ليس هذا التمنِّي مِنَ القرآن والوحي في شيءٍ، وإِنَّما هو أنَّ النَّبِيَّ صلعم كان إذا صفرت يده مِنَ المال، ورأى ما بأصحابه مِن سوء الحال؛ تمنَّى الدنيا بقلبه ووسوسة الشيطان، وأحسنُ مِن هذا أيضًا ما قاله بعضهم: كان النَّبِيُّ صلعم يرتِّل القرآن، فارتصده الشيطان في سكتة مِنَ السكتات، ونطق بتلك الكلمات محاكيًا نغمته، بحيث سَمِعَه مَن دنا إليه فظنَّها مَن قوله وأشاعها.
          قُلْت: تلك الكلمات هي ما أخرجه ابن أبي حاتمِ والطَّبَريُّ وابن المنذر مِن طرقٍ عن شعبة عن أبي بشرٍ، عن سعيد بن جُبَيرٍ، عن ابن عَبَّاسٍ قال: قرأ رسول الله صلعم بِمَكَّةَ «النجم» فلمَّا بلغ: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى}[النجم:19] ألقى الشيطانُ على لسانه: تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى، وَإِنَّ شَفَاعَتهم لَتُرْتَجَى، فقال المشركون: ما ذَكَرَ آلهتنا بخيرٍ قبل اليوم فسجد وسجدوا، فنزلت هذه الآية، ورويَ هذا أيضًا مِن طرقٍ كثيرةٍ، وقال ابن العربيِّ: ذكر الطَّبَريُّ في ذلك رواياتٍ كثيرةً باطلةً لا أصل لها، وقال عياضٌ: هذا الحديث لم يخرِّجه أحدٌ مِن أهل الصحَّة، ولا رواه ثقةٌ بسندِ سليمٍ متَّصلٍ، مع ضعف نَقَلَتِه، واضطراب رواياته، وانقطاع إسناده، وكذا مَن تكلَّمتْ هذه القصَّةَ مِنَ التَّابِعينَ والمفسِّرين، لم يسندها أحدٌ منهم ولا رفعها إلى صاحبٍ، وأكثر الطُّرق عنهم في ذلك ضعيفةٌ، وقال بعضهم: هذا الذي ذكره ابن العربيِّ وعياضٌ لا يمشي على القواعد، فإنَّ الطرق إذا كثُرت وتباينت مخارجُها دلَّ ذلك على أنَّ لها أصلًا انتهى.
          قُلْت: الذي ذكراه هو اللَّائق لجلالة قدر النَّبِيِّ صلعم ، فَإِنَّهُ قد قامت الحجَّة وأجمعت الأمَّة على عِصمته صلعم ونزاهتِه عن مثل هذه الرذيلة، وحاشاه عن أن يَجرِي على قلبه أو لسانه شيءٌ مِن ذلك، لا عمدًا ولا سهوًا، [أو يكون للشيطان عليه سبيلٌ، أو أن يتقوَّل على الله ╡ ، لا عمدًا ولا سهوًا]، والنظر والعُرف أيضًا يَستَحيلان ذلك، لو وقع لارتدَّ كثيرٌ ممَّن أسلم، ولم يُنقَل ذلك، ولا كان يخفى على مَن كان بحضرته مِنَ المسلمين.
          قوله: {مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} (الرسول) هو الذي يأتيه جبريل ◙ بالوحي عيانًا وشِفاهًا، و(النَّبِيُّ) هو الذي تكون نبوَّته إلهامًا أو كلامًا، فكلُّ رسولِ نبيٌّ بغير عكسٍ.
          قوله: ({إِذَا تَمَنَّى}) أي: إذا أحبَّ واشتهى وحدَّثت به نفسُه مِمَّا لم يُؤمَر به.
          قوله: ({فِي أُمْنِيَّتِهِ}) أي: مراده، وقال ابن العربيِّ: أي: في قراءته، فأخبر الله تعالى في هذه الآية أنَّ سنَّته في رُسُله إذا قالوا قولًا زاد الشيطان فيه مِن قِبَل نفسه، فهذا نصٌّ في أنَّ الشيطان زاده في قول النَّبِيِّ صلعم ، لا أنَّ النَّبِيَّ صلعم قاله.
          (ص) وَيُقَالُ: (أُمْنِيَّتُهُ) قِرَاءَتُهُ، {إِلَّا أَمَانِيَّ} يَقْرَؤُونَ وَلَا يَكْتُبُونَ.
          (ش) هو قول الفَرَّاء فَإِنَّهُ قال: معنى قوله: {إِلَّا إِذَا تَمَنَّى} إلَّا إذا تلا، قال الشاعر:
تَمَنَّى كِتَابَ اللَّه أَوَّلَ لَيْلَةٍ                     تَمَنِّيَ دَاوُدُ الزَّبُورَ عَلَى رِسْلِ
          قوله: ({إِلَّا أَمَانِيَّ}) إشارةٌ إلى قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ}[البقرة:78] أورده استشهادًا بأنَّ {تَمَنَّى} بمعنى (تلا) لأنَّ معنى قوله: {إِلَّا أَمَانِيَّ}: إلَّا ما يقرؤون.
          [(ص) وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَشِيدٌ بِالْقَصَّةِ.
          (ش) أي: قال مجاهدٌ في قوله تعالى: {وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ}[الحج:45] أنَّ معناه: قصرٍ مَشيدٍ؛ يعني: معمول بالشِيْد؛ بكسر الشين المُعْجَمة وسكون الياء آخر الحروف وبالدال المُهْمَلة، وهو الجَِصُّ _بكسر الجيم وفتحها_ وهو الكلس، وفي «المغرب»: الجصُّ تعريب «كج»، وقال الجَوْهَريُّ: تقول: شاده يشيده شيدًا: جصَّصه، وقال قتادة / والضَّحَّاك وربيعٌ: {قصر مشيد}؛ أي: طويل، وعن الضَّحَّاك: أنَّ هذه البئر إِنَّما كانت بحضرموت في بلدةٍ يقال لها: حاضوراء، وذلك أنَّ أربعة آلاف نفرٍ ممَّن آمن بصالحٍ ◙ لمَّا نجوا مَنِ العذاب أتوا حضرموت، ومعهم صالحٌ ◙ ، فلمَّا حضروه مات صالحٌ، فسُمِّيت حضرموت لأنَّ صالحًا لمَّا مات بنو حاضوراء، وقعدوا على هذه البئر، وأمَّروا عليهم رجلًا يقال له: جلهس بن جلاس بن سُوَيد، وجعلوا وزيره سِنْجاريب بن سوادة؛ فأقاموا دهرًا وتناسلوا حَتَّى نموا وكثروا، ثُمَّ عبدوا الأصنام وكفروا بالله تعالى، فأرسل الله تعالى إليهم نبيًّا يقال له: حنظلة بن صفوان، كان جمَّالًا فيهم، فقتلوه في السوق، فأهلكهم الله تعالى، وعُطِّلت بئرهم، وخُرِّبت قصورهم]
.
          (ص) وَقَالَ غَيْرُهُ: {يَسْطُونَ} يَفْرُطُونَ، مِنَ السَّطْوَةِ، وَيُقَالُ: {يَسْطُونَ}: يَبْطُشُونَ.
          (ش) أي: قال غير مجاهدٍ في قوله ╡ : {يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا}[الحج:72]: إنَّ معنى قوله: ({يَسْطُونَ}) : (يَفْرُطُونَ) وكذا فسَّره أبو عُبَيْدةَ، مِن فَرَط يفرُط فَرْطًا، من (باب نصَر ينصُر) أي: قصَّر وضيَّع حَتَّى مات، وفَرَط عليه؛ إذا عجِلَ وعدا، وفرط؛ إذا سبق.
          قوله: (مِنَ السَّطْوَةِ) أي: اشتقاقه مِنَ السطوة، يقال: سطا عليه وسطا به؛ إذا تناوله بالبطش والعنف والشدَّة؛ أي: يكادون يقعون بمُحَمَّدٍ وأصحابه مِن شدَّة الغيظ، ويبسطون إليهم أيديهم بالسوء.
          قوله: (وَيُقَالُ) هو قول الفَرَّاء؛ فَإِنَّهُ قال: كان مشركو قريشٍ إذا سمعوا المسلم يتلو القرآن كادوا يبطشون به، وكذا روى ابن المنذر مِن طريق عليِّ بن أبي طلحة عن ابن عَبَّاسٍ في قوله: {يَسْطُونَ} فقال: (يَبْطُشُونَ).
          (ص) {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} أُلْهِمُوا إلى القُرْآن.
          (ش) هذا في وصف أهل الجنَّة، وفسَّر ({الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ}[الحج:24]) بقوله: (أُلْهِمُوا إِلَى القُرْآن) هكذا فسَّره السُّدِّيُّ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يريد: لا اله إلَّا الله والحمد لله، وزاد ابن زيدٍ: والله أكبر.
          قوله: (أُلْهِمُوا) في رواية النَّسَفِيِّ، وقوله: (إلى القُرْآن) لم يثبت إلَّا في رواية أبي ذرٍّ، ولا بدَّ منه؛ لأنَّ ذِكْرَ شيءٍ مِنَ القرآن مِن غير تفسيرِه لا طائلَ تحته.
          (ص) وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {بِسَبَبٍ} بِحَبْلٍ إِلَى سَقْفِ الْبَيْتِ.
          (ش) أي: قال عبد الله بن عَبَّاسٍ ☻ في تفسير قوله ╡ : {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء ثُمَّ لِيَقْطَعْ}[الحج:15] وفسَّره بقوله: (بِحَبْلٍ إِلَى سَقْفِ الْبَيْتِ) هذا التعليق رواه ابن المنذر عن عبد الله بن الوليد، عن سفيان، عن التَّمِيمِيِّ، عن ابن عَبَّاسٍ بلفظ: فليمدد بحبلٍ إلى السماءِ سماءِ بيته، فليختنق به، [ورواه عبدُ بن حُمَيد مِن طريق أبي إسحاق عن التَّمِيمِيِّ عن ابن عَبَّاسٍ بلفظ: مَن كان يظنُّ أن لن ينصرَ اللهُ مُحَمَّدًا؛ فليمدُد بسبب إلى سماء بيته، فليختنق به].
          (ص) {تَذْهَلُ} تُشْغَلُ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {يَوْمَ [تَرَوْنَهَا] تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ}[الحج:2] وفسَّر ({تَذْهَلُ}) بقوله: (تُشْغَلُ)، قال الثعلبيُّ: كذا فسَّره ابن عَبَّاسٍ، وعن الضحَّاك: تَسْلُو، يقال: ذهلتُ عن كذا؛ أي: تركتُه.