عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

سورة إبراهيم
  
              

          ░░░14▒▒▒ (ص) سورَةُ إِبْرَاهِيمَ ◙ .
          (ش) أي: هذا في تفسير بعض (سورة إبراهيم ◙ ).
          (ص) ♫
          (ش) لم تثبت البسملة إلَّا لأبي ذرٍّ وحدَه، قال أبو العَبَّاس: فيها آيةٌ واحدةٌ مدنيَّةٌ؛ وهي قولُه تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ الله كُفْرًا}[إبراهيم:28]، وعَنِ الكلبيِّ: هي مدنيَّةٌ نزلت فيمَن قُتِلَ ببدرٍ، وعند ابن المنذر عن قتادة: نزلت بالمدينة آيتان مِن «سورة إبراهيمَ»: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللّهِ كُفْرًا}...الآيتين، وسائرها مَكِّيٌّ، وقال الثعلبيُّ: مكِّيَّةٌ، وهي ثلاثة آلاف وأربع مئة وأربعة وثلاثون حرفًا، وثمان مئة وإحدى وثلاثون كلمةً، واثنتان وخمسون آيةً.
          (ص) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {هَادٍ} دَاعٍ.
          (ش) أشار به إلى قولِه تعالى: {إِنَّما أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ}[الرعد:7]، ولكنَّ هذا في (سورة الرعد)، الظاهر أنَّ ذِكْرَ هذا هنا مِن بعض النُّسَّاخ.
          وفسر لفظ: ({هَادٍ}) بقوله: (دَاعٍ).
          وروى هذا التعليقَ الحَنْظَلِيُّ عن أبيه: حَدَّثَنَا أبو صالحٍ: حَدَّثَنَا معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عَبَّاسٍ.
          (ص) وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {صَدِيدٌ} قَيْحٌ وَدَمٌ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ}[إبراهيم:16] لم يُذكَر هذا في رواية أبي ذرٍّ.
          وروى هذا التعليقَ ابنُ المنذر عن موسى، عن أبي بكرٍ، عن شبابة، عن ورقاء، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ، وعن قتادة: هو ما يخرج مَن جلد الكافر ولحمه، وعن مُحَمَّد بن كعبٍ والربيع بن أنس: هو غُسال أهل النار، وذلك ما يسيل مِن فروج الزناة، يُسقَاه الكافر.
          (ص) وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: {اذْكُرُوا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} أَيَادِيَ الله عِنْدَكُمْ وَأَيَّامَهُ.
          (ش) أي: قال سفيان بن عُيَيْنَةَ في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ} الآيَةَ [إبراهيم:6] وفسَّر: ({نِعْمَةَ اللهِ}) بقوله: (أَيَادِيَ اللهِ) و(الأيادي) جمع (الأيدي)، وهو جمع (اليد)، بمعنى النعمة، وهذا التعليق وصله الطَّبَريُّ مِن طريق الحُمَيْديِّ عنه.
          (ص) وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} رَغِبْتُمْ إِلَيْهِ فِيهِ.
          (ش) أي: قال مجاهدٌ في قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ. وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ}[إبراهيم:33-34] أنَّ معناه: وأعطاكم مِن كلِّ ما رغبتم إليه فيه، وقال بعض المفسِّرين: معناه: وآتاكم مِن كلِّ ما سألتموه وما لم تسألوه، وعن الضَّحَّاك: أعطاكم أشياء ما طلبتموها ولا سألتموها على النفي، على قراءة {مِن كُلٍّ} بالتنوين، صدق الله تعالى كم مِن شيءٍ أعطانا اللهُ ما سألناه إيَّاه، ولا خطر لنا على بالٍ، وعن الحسن ☼: مِن كلِّ الذي سألتموه؛ أي: مِن كلِّ ما سألتم.
          (ص) {يَبْغُونَهَا عِوَجًا} يَلْتَمِسُونَ لَهَا عِوَجًا.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا / عِوَجًا} الآية [إبراهيم:3]، هذا وقع هنا في رواية الأكثرين، وهو الصواب؛ لأنَّه مِن تفسير مجاهدٍ أيضًا، وفسَّر قوله: ({يَبْغُونَهَا}) بقوله: (يَلْتَمِسُونَ لَهَا) وقد وصله عبدُ بن حُمَيدٍ مِن طريق ابن أبي نَجيحٍ عن مجاهدٍ قال: يلتمسون لها الزيغ، و(العَوج) _بالفتح_ فيما كان مائلًا منتصبًا كالحائط والعود، وبالكسر في الأرض والدِّين وشبههما، قاله ابن السِّكِّيت وابن فارسٍ.
          (ص) {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ} أَعْلَمَكُمْ آذَنَكُمْ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ}[إبراهيم:7]، وفسر: ({تَأَذَّنَ}) بقوله: (أَعْلَمَكُمْ).
          قوله: (آذَنَكُمْ) كذا في رواية الأكثرين، وفي رواية أبي ذرٍّ <أعلمكم ربُّكم>.
          ونقل بعضهم عن أبي عُبَيْدةَ أنَّهُ قال: كلمة {إِذْ} زائدة.
          قُلْت: ليس كذلك، بل معناه: اذكروا حين تأذَّن ربُّكم، ومعنى: {تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ} آذن ربُّكم، قال الزَّمَخْشَريُّ: ونظير «تَأَذَّنَ وآذن»: توعَّد وأَوْعَد، وتفضَّل وأفضل، ولا بدَّ في «تفعَّل» من زيادة معنًى ليس في «أفعل»، كأنَّه قيل: وإذ تأذَّن ربكم إيذانًا بليغًا تنتفي عنده الشكوك.
          وقال بعضهم: {إذ تأذَّن} مِن الإيذان.
          قُلْت: ليس كذلك، بل هو مِن التأذين.
          (ص) {رَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} هَذَا مِثْلُ: كَفُّوا عَمَّا أُمِرُوا بِهِ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ}[إبراهيم:9]، وقال ابن مسعودٍ: أي: عضُّوا على أيديهم غيظًا عليهم.
          قوله: (هَذَا مِثْلُ) قال الكَرْمَانِيُّ: هذا بحسب المقصود مِثْلُ: كَفُّوا عمَّا أُمِروا به، قال: ويُروَى: <مَثَل> بالمفتوحتين، انتهى، ولم يوضِّح ما قاله حَتَّى يشبع الناظر فيه.
          أقول: (مِثْلُ: كَفُّوا) بكسر الميم وسكون الثاء؛ يعني: معنى (رَدُّوا أيديهم في أفواههم) مِثْل معنى: كَفُّوا عمَّا أُمِروا به، وهو على صيغة المجهول، وأَمَّا المعنى على رواية: <هذا مَثَل> بفتحتين، على طريق المَثَل؛ أي: مَثَلُ ما جاء به الأنبياء مِن النصائح والمواعظ وأنَّهم ردُّوها أبلغ ردِّ فرَدُّوا أيديهم في أفواههم وقالوا: إنَّا كفرنا بما أُرسِلتم به؛ أراد: أنَّ هذا جوابنا لكم ليس عندنا غيره، ويقال: أو وضعوا أيديهم على أفواههم يقولون للأنبياء: أطبقوا أفواهكم واسكتوا، أو ردُّوها في أفواه الأنبياء يشيرون لهم إلى السكوت، أو وضعوها على أفواههم ولا يذرونهم يتكلَّمون.
          (ص) {مَقامِي} حَيْثُ يُقيمُهُ الله بَيْنَ يَدَيْهِ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ}[إبراهيم:41]، وفسَّر قوله: ({مَقَامِي}) بقوله: (حَيْثُ يُقيمُهُ الله بَيْنَ يَدَيْهِ) وهكذا روي عن ابن عَبَّاسٍ وغيره، وفي التفسير: {مَقَامِي} موقفي، وهو موقف الحساب؛ لأنَّه موقف الله تعالى الذي يقف فيه عباده يوم القيامة، وقيل: خاف قيامي عليه وحفظي لأعماله.
          (ص) {مِن ورَائِهِ} قُدَّامِهِ جَهَنَّمَ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ}[إبراهيم:17] وفسَّر: (الوراء) بالقدَّام، وفسَّره الزَّمَخْشَريُّ: مِن بين يديه، ونقل قطربٌ وغيره: أنَّهُ مِنَ الأضداد، وأنكره إبراهيم بن عرفة، وقال: لا يقع «وراء» بمعنى «أمام» إلَّا في زمانٍ أو مكانٍ، وقال الأزهريُّ: معناه: ما توارى عنه واستتر.
          (ص) {لَكُمْ تَبَعًا} وَاحِدُهَا: تَابِعٌ، مِثْلُ: غَيَبٍ وَغَائِبٍ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ الله مِن شَيْءٍ}[إبراهيم:21]، (التَّبَع) جمع (تابعٍ)، كـ(خَدَمٍ) جمع (خادمٍ)، ومثَّله البُخَاريُّ بقوله: (مِثْلُ: غَيَبٍ) بفتحتين جمع (غَائِبٍ)، وقيل معناه: إنَّا كنَّا لكم ذوي تَبَعٍ.
          (ص) {بِمُصْرِخِكُمْ} اسْتَصْرَخَنِي: اسْتَغَاثَنِي، {يَسْتَصْرِخُهُ} مِنَ الصُّرَاخِ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ}[إبراهيم:22] هذا لم يثبت في رواية أبي ذرٍّ.
          قوله: ({مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ}) [أي: ما أنا بمُغِيثكم، قاله أبو عُبَيْدةَ، وقال الزَّمَخْشَريُّ: {مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ] وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} لا ينجِّي بعضُنا بعضًا مِن عذاب الله ولا يُغِيثه، والإصراخ: الإغاثة، وقُرئَ: {بِمُصْرِخِيِّ} بكسر الياء، وهي ضعيفةٌ.
          قُلْت: القراءة الصحيحة فتح الياء، وهو الأصل، وقرأ حمزة بكسر الياء، وقال الزجَّاج: هي عند جميع النحويِّين ضعيفةٌ لا وجهَ لها إلَّا وجهٌ ضعيفٌ _وهو ما أجازه الفَرَّاء_ مِن الكسر على أصل التقاء الساكنين.
          قوله: (اسْتَصْرَخَنِي) يقال: استصرخني فلانٌ؛ أي: (اسْتَغَاثَنِي) فأصرختُه؛ أي: أغثتُه.
          قوله / ({يَسْتَصْرِخُهُ}[القصص:18]) معناه: يصيح به؛ فلهذا قال: (مِنَ الصُّرَاخِ) بالخاء المُعْجَمة، وهو الصوت.
          (ص) {وَلَا خِلَالَ} مَصْدَرُ خَالَلْتُهُ خِلَالًا، وَيَجُوزُ أيضًا جَمْعُ خُلَّةٍ وَخِلَالٍ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ}[إبراهيم:31]، وذكر في لفظ ({خِلَالٌ}) وجهين؛ أحدهما: أنَّهُ (مَصْدَرُ خَالَلْتُهُ خِلَالًا) والمعنى: ولا مخاللة خليلٍ، والثاني: أنَّهُ (جَمْعُ خُلَّةٍ) مثل: ظُلَّةٍ وظِلَالٍ، وهذا الوجه قاله أبو عليٍّ الفارسيُّ، وجمهور أهل اللُّغة على الأَوَّل، و(الخُلَّة) بِضَمِّ الخاء: الصداقة والمحبَّة التي تخلَّلت القلب فصارت خِلالَه؛ أي: في باطنه، ومنه: الخليل، وهو الصديق.
          (ص) {اجْتُثَّتْ} اسْتُؤْصِلَتْ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ}[إبراهيم:26] وفسَّر هذه اللَّفظة بقوله: (اسْتُؤْصِلَتْ) وهو على صيغة المجهول، مِنَ الاستئصال؛ وهو القلع مِن أصله.