عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

كتاب فضائل الصحابة
  
              

          ░1▒ (ص) بَابُ فَضَائِلِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلعم .
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيانِ فضائلِ أصحابِ النَّبِيِّ صلعم ، و(الفَضَائِلُ) جمع (الفضيلةِ) وهي خلاف النَّقيصة؛ كما أنَّ (الفضلَ) خلافُ (النَّقص)، و(الفضلُ) في اللُّغة: / الزيادةُ مِن (فضَل يفضُل) مِن (باب: نصَر ينصُر)، وفيه لغةٌ أخرى: (فضِل يفضَل) مِن (باب: علِم يعلَم) حكاها ابن السِّكِّيت، وفيه لغةٌ ثالثةٌ مركَّبةٌ منهما: فضِل؛ بالكسر يفضُل؛ بالضمِّ، وهو شاذٌّ لا نظيرَ له، وقال سيبويه: هذا عندَ أصحابِنا إِنَّما يجيءُ على لغتَين، وفي بعض النُّسَخ: <باب فضل أصحاب النَّبِيِّ صلعم >، وفي رواية أبي ذرٍّ وحدَه: <فضائل أصحاب النَّبِيِّ صلعم >، هكذا بدون لفظة (باب)، والمرادُ بـ(الفضائل) الخصالُ الحميدةُ والخلالُ المرضيةُ المشكورةُ، و(الأصحاب) جمع (صَحْبٍ) مثل: (فَرْخٍ وأَفْرَاخ)، قاله الجَوْهَريُّ، والصحابة؛ بالفتح: الأصحاب، وهي في الأصل مصدرٌ، وجمع (الأصحاب) أصاحيبُ، مِن صحِبَه يصحَبُهُ صُحبةً؛ بالضمِّ، وصَحابةً؛ بالفتح، وجمع (الصَّاحب) (صَحْبٌ) مثل: (رَاكِبٍ ورَكْبٍ)، و(صُحبةٌ) بالضمِّ؛ مثل: (فارِهٍ وفُرْهٍ)، و(صِحابٌ) مثل: (جائعٍ وجِياعٍ)، و(صُحبانُ) مثل: (شابٍّ وشُبَّان).
          (ص) وَمَنْ صَحِبَ النَّبِيَّ صلعم ، أَوْ رَآهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؛ فَهْوَ مِنْ أَصْحَابِه.
          (ش) أشار بهذا إلى تعريفِ (الصَّاحِبِ) وفيه أقوالٌ:
          الأَوَّل: ما أشار إليه البُخَاريُّ بقوله: (مَنْ صَحِبَ النَّبِيَّ صلعم ، أَوْ رَآهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؛ فَهْوَ مِنْ أَصْحَابِه) وقال الكَرْمَانِيُّ: يعني: الصحابيُّ: مسلمٌ صَحِبَ النَّبِيَّ صلعم أو رآه، وضمير المفعولِ للنبيِّ صلعم ، والفاعل للمسلمِ، على المشهور الصَّحيح، ويحتمل العكس؛ لأنَّهما متلازمان عُرْفًا.
          فَإِنْ قُلْتَ: التَّرديدُ ينافي العُرفَ، قُلْت: التَّرديد في أقسام المحدود؛ يعني: الصَّحابيُّ قسمان؛ لكلٍّ منهما تعريفٌ.
          فَإِنْ قُلْتَ: إذا صحِبَه؛ فقد رآه، قُلْت: لا يلزم؛ إذ عمرو بن أمِّ مكتومٍ صحابيٌّ اتِّفاقًا، مع أنَّهُ لم يرَه، انتهى.
          قُلْت: (مَنْ) في محلِّ الرَّفع على الابتداء، وهي موصولةٌ، و(صَحِبَ) صلتُها، وقوله: (أَوْ رَآهُ) عطفٌ عليه؛ أي: أو رأى النَّبِيَّ صلعم الصاحبُ، ويحتمل العكسَ، كما قاله الكَرْمَانِيُّ، لكنَّ الأَوَّلَ أَولى؛ ليدخلَ فيه مِثلُ ابنِ أمِّ مكتومٍ، وقوله: (فَهُوَ مِنْ أَصْحَابِهِ) جملةٌ في محلِّ الرفع على أنَّها خبرُ المبتدأ، ودخولُ الفاء؛ لتضمُّن المبتدأِ الشرطَ.
          وقوله: (مِنَ المسْلِمينَ) قيدٌ؛ ليخرُجَ به مَن صحِبَهُ أو رآه مِنَ الكفَّار، فَإِنَّهُ لا يسمَّى صحابيًّا، قيل: في كلام البُخَاريِّ نقصٌ يُحتَاج إلى ذكرِه، وهو ثُمَّ مات على الإسلام، والعبارةُ السالمةُ مِنَ الاعتراض أن يُقال: الصحابيُّ: مَن لقِيَ النَّبِيَّ صلعم مُسلِمًا، ثُمَّ مات على الإسلام؛ ليخرج مَنِ ارتدَّ وماتَ كافرًا؛ كابن خَطَلٍ، وربيعةَ بنِ أميَّة، ومقيسِ بنِ صبابة، ونحوِهم، ومنهم مَنِ اشترط في ذلك أن يكون حين اجتماعه به بالغًا، وهو مردودٌ؛ لأنَّه يُخرِجُ مثلَ الحسن بن عليٍّ ☻ ونحوَه مِن أحداثِ الصحابة.
          القول الثاني: أنَّهُ مَن طالت صحبتُه له وكثُرَت مجالسته مع طريق التَّبع له والأخذ عنه، هكذا حكاه أبو المُظَفَّر السَّمعانيُّ عَنِ الأصوليِّين، وقال: إنَّ اسمَ الصحابيِّ يقعُ على ذلك مِن حيثُ اللُّغةُ والظاهرُ، قال: وأصحابُ الحديثِ يطلقون اسمَ الصُّحبة على كلِّ مَن روى عنه حديثًا أو كلمةً، ويتوسَّعون حَتَّى يعدُّون مَن رآه رؤيةً مِنَ الصحابة، ومَنِ ارتدَّ، ثُمَّ عاد إلى الإسلام، لكن لم يرَهُ ثانيًا بعدَ عودِهِ؛ فالصحيح أنَّهُ معدودٌ في الصَّحابة؛ لإطباق المحدِّثين على عدِّ الأشعث بن قيسٍ ونحوِهِ ممَّن وقعَ له ذلك، وإخراجُهم أحاديثَهم في المسانيدِ، وقال الآمديُّ: الأشبه أنَّ الصَّحابيَّ مَن رآه، وحكاه عن أحمدَ وأكثرِ أصحابِ الشَّافِعِيِّ، واختاره ابن الحاجب أيضًا؛ لأنَّ الصحبةَ تعمُّ القليلَ والكثيرَ، وفي كلام أبي زُرْعَةَ الرَّازيِّ وأبي داودَ ما يقتضي أنَّ الصُّحبةَ أخصُّ مِنَ الرؤيةِ، فَإِنَّهُما قالا في طارق بن شهابٍ: له رؤيةٌ، وليست له صُحبةٌ، قال شيخُنا: ويدلُّ على ذلك ما رواه مُحَمَّد بن سعدٍ في «الطبقات»: عن عليِّ بن مُحَمَّدٍ، عن شعبة، عن موسى السَّيْلانيِّ قال: أتيتُ أنسَ بنَ مالكٍ ☺ ، فقُلْت: أنت آخرُ مَن بقيَ مِن أصحاب رسول الله صلعم ؟ قال: قد بقي قومٌ مِنَ الأعراب، فأَمَّا مِن أصحابه؛ فأنا آخرُ مَن بقيَ، قال ابن الصَّلاح: إسنادُهُ جَيِّدٌ.
          القول الثالث: ما رُوِيَ عن سعيد بن المُسَيَِّبِ أنَّهُ كانَ لا يعدُّ الصحابيَّ إلَّا مَن / أقامَ معَ رسول الله صلعم سنةً أو سنتَين، وغزا معه غزوةً أو غزوتَين، وهذا فيه ضيقٌ يُوجِبُ ألَّا يُعَدَّ مِنَ الصحابة جريرُ بن عبد الله البَجَليُّ ومَن شاركه في فقدِ ظاهرِ ما اشترطه فيهم؛ ممَّن لا نعلمُ خلافًا في عَدِّه مِنَ الصحابة، قال شيخنا: هذا عن ابنِ المُسَيَِّبِ لا يصحُّ؛ لأنَّ في إسنادِه مُحَمَّدَ بنَ عُمَرَ الواقديَّ، وهو ضعيفٌ في الحديث.
          القول الرابع: أنَّهُ يُشتَرط مع طول الصُّحبة الأخذُ عنه، حكاه الآمديُّ عن عَمْرو بن بحرٍ أبي عثمانَ، الجاحظ مِن أئِمَّة المعتزلةِ، قال فيه ثعلبٌ: إنَّهُ غيرُ ثقةٍ ولا مأمونٍ، ولا يوجد هذا القولُ لغيره.
          القول الخامس: أنَّهُ مَن رآه مسلمًا بالغًا عاقلًا، حكاه الواقديُّ عَن أهلِ العلمِ، والتقييد بالبلوغ شاذٌّ، وقد مرَّ عن قريبٍ.
          القول السادس: أنَّهُ مَن أدرك زمنَه صلعم وهو مسلمٌ وإن لم يرَهُ، وهو قولُ يحيى بن عثمان بن صالح المصريِّ، فَإِنَّهُ قال: فيمَن دُفِنَ _أي: بمصرَ مِن أصحاب رسول الله صلعم ممَّن أدركه ولم يسمَعْ منه_ أبو تميمٍ الجَيْشانيُّ، واسمُه عبدُ الله بن مالك، انتهى، وإِنَّما هاجر أبو تميم إلى المدينة في خلافة عمرَ ☺ باتِّفاق أهلِ السِّيَرِ، وممَّن حكى هذا القولَ مِنَ الأصوليِّين القرافيُّ في «شرح التنقيح»، وكذلك إن كان صغيرًا محكومًا بإسلامه تبعًا لأحدِ أبوَيهِ.
          فائدةٌ: وتُعْرَف الصُّحبةُ إمَّا بالتَّواتُر؛ كأبي بكرٍ وعمرَ وبقيَّةِ العشرة في خلقٍ منهم، وإمَّا بالاستفاضة والشُّهرة القاصرة عنِ التواتُر؛ كعُكَّاشة بن مِحْصَن، وضِمامِ بن ثعلبةَ، وغيرِهما، وإمَّا بإخبار بعضِ الصحابة عنه أنَّهُ صحابيٌّ؛ كحُمَمَةَ بنِ أبي حُمَمَةَ الدَّوسيِّ الذي مات بأصبهانَ مبطونًا، فشهِدَ له أبو موسى الأشعريُّ أنَّهُ سمِعَ النَّبِيَّ صلعم حَكَمَ له بالشهادة، ذكر ذلك أَبُو نُعَيْمٍ في «تاريخ أصبهانَ»، وإمَّا بإخباره عن نفسِهِ أنَّهُ صحابيٌّ بعدَ ثبوت عدالته قبلَ إخبارِه بذلك، هكذا أطلق ابن الصَّلاحِ تبعًا للخطيب، وقال شيخُنا: لا بدَّ مِن تقييد ما أُطْلِقَ مِن ذلك؛ بأن يكونَ ادِّعاؤه لذلك يقتضيه الظاهرُ، أَمَّا لو ادَّعاه بعدَ مضيِّ مئة سنةٍ مِن حين وفاتِهِ صلعم ؛ فَإِنَّهُ لا يُقْبَل وإن كانَت قد ثبتَت عدالتُهُ قبلَ ذلك؛ لقوله صلعم في الحديث الصَّحيح: «أرأيتُم ليلتَكم هذه؛ فَإِنَّهُ على رأس مئة سنةٍ لا يبقى أحدٌ ممَّن على وجه الأرضِ»؛ يريد: انخرام ذلك القرن، فإنَّ ذلك في سنة وفاتِهِ صلعم ، وقد اشترط الأصوليُّون في قَبولِ ذلك منه أن يكونَ عُرِفَتْ معاصرتُه للنَّبيِّ صلعم ، قال الآمديُّ: فلو قال مَن عاصره: أنا صحابيٌّ، معَ إسلامِه وعدالتِهِ؛ فالظاهرُ صدقُهُ.