عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

سورة الكهف
  
              

          ░░░18▒▒▒ (ص) سُورَةُ الْكَهْفِ
          (ش) أي: هذا في بيان بعض تفسير (سورة الكهف)، ذكر ابن مردويه أنَّ ابن عَبَّاسٍ / وعبد الله بن الزُّبَير ♥ قالا: إنَّها مَكِّيَّةٌ، وعن القرطبيِّ عن ابن عَبَّاسٍ: مَكِّيَّةٌ إلَّا قوله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ}[الكهف:28] فَإِنَّها مدنيَّةٌ، وفي «مقامات التنزيل»: فيها ثلاث آياتٍ مدنيَّاتٍ: قوله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ}، وقوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ}[الكهف:83].
          وهي ستَّة آلاف وثلاث مئة وستُّون حرفًا، وألف وخمس مئة وسبع وسبعون كلمةً، ومئةٌ وعشر آياتٍ.
          (ص) ♫
          (ش) ثبتت البسملة للأكثرين إلَّا لأبي ذرٍّ لم تثبت.
          (ص) وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {تَقْرِضُهُمْ} تَتْرُكُهُمْ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ}[الكهف:17] وفسَّر مجاهدٌ: ({تَقْرِضُهُمْ}) بقوله: (تَتْرُكُهُمْ)، هذا التعليق رواه الحَنْظَلِيُّ عن حَجَّاج بن حمزة: حَدَّثَنَا شبابة: حَدَّثَنَا ورقاء، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ... فذكره، وعن ابن عَبَّاسٍ: {تَقْرِضُهُمْ} تَدَعُهُم، وعن مقاتلٍ: تتجاوزهم، وأصل (القرض) القطع.
          (ص) {وَكَانَ لَهُ ثُمْرٌ} ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ.
          (ش) أشار به إلى قوله: {وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا. وَكَانَ لَهُ ثُمْرٌ} الآية[الكهف:33-34] وفسَّر (الثُّمر) _بِضَمِّ الثاء_ بالذهب والفضَّة، وهذا مِن تتمَّة قول مجاهدٍ، ورواه ابن عُيَينة في «تفسيره» عن ابن جُرَيْج عنه، وأخرج الفَرَّاء مِن وجهٍ آخر عن مجاهدٍ قال: ما كان في القرآن {ثُمْر} بالضمِّ؛ فهو المال، وما كان بالفتح فهو النبات.
          (ص) وَقَالَ غَيْرُهُ: جَمَاعَةُ الثَّمَرِ.
          (ش) قال بعضهم: كأنَّه عنى به قتادة.
          قُلْت: الذي قاله صاحب «التلويح»: (يريد بالغير ابن عباسٍ) هو الصواب.
          قوله: (جَمَاعَةُ) أي: جمعه؛ أي: جمع (الثَّمر) بالفتح (الثُّمُر) بضمَّتين، وقيل: إنَّ (الثمرة) تُجَمع على (ثمار)، و(الثمار) تُجمَع على (ثُمُر)، فيكون (الثُّمُر) جمع الجمع.
          (ص) {بَاخِعٌ} مُهْلِكٌ.
          (ش) أشار به إلى قوله ╡ : {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ} الآية[الكهف:6] وفسَّر ({بَاخِعٌ}) بقوله: (مُهْلِكٌ) وبه فسَّر أبو عُبَيْدةَ.
          (ص) {أَسَفًا} نَدَمًا.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا}[الكهف:6] وفسَّر ({أَسَفًا}) بقوله: (نَدَمًا) وكذا فسَّره أبو عُبَيْدةَ، وعن قتادة: {أسَفًا} حزنًا، وأراد بـ{الحديثِ} القرآن.
          (ص) {الْكَهْفُ} الْفَتْحُ فِي الْجَبَلِ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ}[الكهف:9] وفسَّر ({الْكَهْفُ}) بقوله: (الْفَتْحُ فِي الْجَبَلِ) ويقال: الكهف الغار في الجبل.
          (ض) و{الرَّقِيم} الْكِتَابُ، {مَرْقُومٌ}[المطففين:9] مَكْتُوبٌ مِنَ الرَّقْمِ.
          (ش) اختلف المفسِّرون في {الرقيم}؛ فقيل: هو الطَّاق في الجبل، وعن ابن عَبَّاسٍ: هو وادٍ بين أيلة وعسفان، وأيلة دون فلسطين، وهو الوادي الذي فيه أصحاب الكهف، وقال كعبٌ: هو قريتهم، فعلى هذا التأويل مِن رقمة الوادي، وهو موضع الماء منه، وعن سعيد بن جُبَيرٍ: {الرقيم} لوحٌ من حجارةٍ، وقيل: مِن رصاص كتبوا فيها أسماء أصحاب الكهف وقصصهم، ثُمَّ وضعوه على باب الكهف، فعلى هذا بمعنى المرقوم؛ أي: المكتوب، والرقم: الخطُّ والعلامة، والرقم: الكتابة.
          (ص) {رَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} أَلْهَمْنَاهُمْ صَبْرًا.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا}[الكهف:14] وفسَّر ({رَبَطْنَا}) بقوله: (أَلْهَمْنَاهُمْ صَبْرًا)، وفي التفسير: شددنا على قلوبهم بالصبر، وألهمناهم ذلك، وقويَّناهم بنور الإيمان حَتَّى صبروا على هجران دار قومهم، وفراق ما كانوا فيه مِن خفض العيش.
          (ص) {لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا}.
          (ش) هذا في (سورة القصص) وهو قوله تعالى: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[القصص:10] ذكره ههنا استطرادًا؛ لكونه مِن مادَّة: {رَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ}، وروى عبد الرَّزَّاق عن معمرٍ عن قتادة: {لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} بالإيمان.
          (ص) {شَطَطًا} إِفْرَاطًا.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا}[الكهف:14] وفسَّر ({شَطَطًا}) بقوله: (إِفْرَاطًا)، وعن ابن عَبَّاسٍ ومقاتلٍ: جورًا، وعن قتادة: كذبًا، وأصل (الشطط) : مجاوزة القدر والإفراط.
          (ص) (الْوَصِيدُ) الْفِنَاءُ، جَمْعُهُ، وَصَائِدُ وَوُصُدٌ، وَيُقَالُ: الْوَصِيدُ الْبَابُ، {مُؤْصَدَةٌ} مُطْبَقَةٌ، آصَدَ الْبَابَ وَأَوْصَدَ.
          (ش) أشار به إلى قوله / : {وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ}[الكهف:18] وفسَّره بـ(الْفِنَاءُ) بكسر الفاء، وهو سعةٌ أمام البيوت، وقيل: ما امتدَّ مِن جوانبها.
          قوله: (وَيُقَالُ: الْوَصِيدُ الْبَابُ) روي كذلك عن ابن عَبَّاسٍ، وقاله السُّدِّيَّ أيضًا، وعن عطاءٍ: «الْوَصِيدُ» عتبة الباب.
          قوله: ({مُؤْصَدَةٌ}: مُطْبَقَةٌ) ذكره استطرادًا، وهو في قوله تعالى: {إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ}[الهمزة:8] يعني: إنَّ النار {عَلَيِهِم} أي: على الكافرين {مُؤْصَدَةٌ} أي: مطبَقَة، قاله الكلبيُّ، واشتقاقه مِن آصد يوصد، أشار إليه بقوله: (آصَدَ الْبَابَ) بمدِّ الهمزة؛ أي: أطبقه، وكذلك: (أَوْصَدَ).
          (ص) {بَعَثْنَاهُمْ} أَحْيَيْنَاهُمْ.
          (ش) أشار به إلى قوله: {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا}[الكهف:12] وإلى قوله تعالى أيضًا: {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا} الآية[الكهف:19].
          وفي التفسير: قوله: {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ} يعني: مِن نومهم، وذلك حين تنازع المسلمون الأوَّلون أصحاب الكهف، والمسلمون الآخِرون الذين أسلموا حين رأوا أصحاب الكهف في قدر مدَّة لبثهم في الكهف، فقال المسلمون الأوَّلون: مكثوا في الكهف ثلاث مئة وتسع سنين، وقال المسلمون الآخِرون: بل مكثوا كذا وكذا، وقال الآخِرون: الله أعلم بما لبثوا، فذلك قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ}.
          قوله: ({أَحْصَى}) أي: أحفظ في العدِّ.
          قوله: ({لِمَا لَبِثُوا}) أي: لما مكثوا في كهفهم نيامًا.
          قوله: ({أَمَدًا}) أي: غايةً، وعن مجاهدٍ: عددًا.
          وكذلك معنى قوله: ({وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ}) يعني: كما أنمناهم في الكهف، ومنعناهم مِن الوصول إليهم، وحفظنا أجسامهم مِن البلى على طول الزمان، وثيابهم مِن العفن، كذلك بعثناهم مِن النومة التي تشبه الموت.
          (ص) {أَزْكَى} أَكْثَرُ، وَيُقَالُ: أَحَلُّ، وَيُقَالُ: أَكْثَرُ رَيْعًا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أُكْلَهَا.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا}[الكهف:19] وفسَّر ({أَزْكَى}) بقوله: (أَكْثَرُ) وكذا فسَّره عِكْرِمَة، وأصله مِنَ الزكاة، وهي الزيادة والنماء.
          قوله: (وَيُقَالُ: أَحَلُّ) أي: أَحَلُّ ذبيحةً، قاله ابن عَبَّاسٍ وسعيد بن جُبَير؛ لأنَّ عامَّتهم كانوا مجوسًا، وفيهم قومٌ مؤمنون يخفون إيمانهم.
          قوله: (وَيُقَالُ: أَكْثَرُ رَيْعًا) أي: معنى {أزكى} أكثر ريَعًا، [والرَّيِع: الزيادة والنماء على الأصل، قاله ابن الأثير].
          قوله: (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أُكْلَهَا) أي: أزكى أكلها؛ أي: أطيب أكلها، والمعاني المذكورة متقاربةٌ.
          (ص) {وَلَمْ تَظْلِمْ} ولَمْ تَنْقُصْ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا}[الكهف:33] وفسَّر قوله: ({لَمْ تَظْلِمْ}) بقوله: (لَمْ تَنْقُصْ) وهذا مِن تفسير ابن عَبَّاسٍ، رواه ابن أبي حاتمٍ عن أبيه: حَدَّثَنَا إبراهيم بن موسى: حَدَّثَنَا هشام بن يوسف، عن ابن جُرَيْجٍ، عن عطاءٍ، عن ابن عَبَّاسٍ.
          (ص) وَقَالَ سَعِيدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاس: {الرَّقِيمُ} اللَّوْحُ مِنْ رَصَاصٍ، كَتَبَ عَامِلُهُمْ أَسْمَاءَهُمْ ثُمَّ طَرَحَهُ فِي خِزَانَتِهِ.
          (ش) لا يوجد هذا في كثيرٍ من النُّسَخ، ومع هذا لو كان ذُكِر عند قوله: ({وَالرَّقِيمُ} الكتاب، {مرقومٌ} مكتوبٌ، مِنَ الرقم) لكان أوجهُ وأقربُ.
          و(سَعِيدٌ) هو ابن جبير.
          وروى هذا التعليقَ ابنُ المنذر عن عليٍّ عن أبي عبيد: حَدَّثَنَا سفيان بن حسين، عن يَعْلَى بن مسلمٍ، عن سعيدٍ، عن ابن عَبَّاسٍ بلفظ: إنَّ الفتية طُلِبوا فلم يجدوهم، فرُفِع ذلك إلى الملك، فقال: ليكوننَّ لهؤلاء شأنٌ، فدعا بلوحٍ مِن رصاصٍ، فكتب أسماءهم فيه وطرحه في خزانته، قال: فالرقيم هو اللوح الذي كُتِبوا فيه.
          (ص) {فَضَرَبَ اللهُ عَلَى آذَانِهِمْ} فَنَامُوا.
          (ش) هذه إشارةٌ إلى قوله تعالى: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا}[الكهف:11] هذا مِن فصيحات القرآن التي أقرَّت العرب بالقصور عن الإتيان بمثله، ومعناه: أنمناهم وسلَّطنا عليهم النوم، كما يقال: ضرب اللهُ فلانًا بالفالج؛ أي: ابتلاه به وأرسله عليه، وقيل: معناه: حجبناهم عن السمع وسددنا نفوذ الصوت إلى مسامعهم، وهذا وصف الأموات والنيام.
          (ص) وَقَالَ غَيْرُهُ: وَأَلَتْ تَئِلُ: تَنْجُو، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {مَوْئِلًا} مَحْرِزًا.
          (ش) أي: وقال غير ابن عَبَّاسٍ في قوله: {بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلًا}[الكهف:58] أراد أنَّ لفظ {موئلًا} مشتقٌّ من (وَأَلَتْ تَئِلُ) مِن (باب فَعَل يفْعِل) بفتح العين في الماضي وكسرها في المستقبل، ومعنى (تَئِلُ) : (تَنْجُو)، وقال الجَوْهَريُّ: وَأَلَ إليه / يَئِل وَألًا ووُؤُولًا على «فُعُول» أي: لجأ، والموئِل الملجَأ.
          قوله: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {مَوْئِلًا} مَحْرِزًا) يعني: معناه: مَحْرِزًا، وعن قتادة: معناه: مَلجأً، ورجَّح ابن قُتيبة هذا المعنى.
          (ص) {لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} لَا يَعْقِلُونَ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا}[الكهف:101] وفسَّر قوله: ({لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا}) بقوله: (لَا يَعْقِلُونَ)، وفي التفسير: وصف الله الكافرين بقوله: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ} أي: غشاءٍ وغفلةٍ {عَنْ ذِكْرِي} أي: عن الإيمان والقرآن {لَا يَسْتَطِيعُونَ} أي: لا يطيقون أن يسمعوا كتاب الله ╡ ويتدبَّرونه ويؤمنون به؛ لغلبة الشقاء عليهم، والله أعلم.