عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

أبواب صلاة الخوف
  
              

          ░░12▒▒ (ص) أبْوَابُ صَلَاةِ الخَوْفِ.
          وَقَوْلِ اللهِ ╡ : {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا. وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} إِلَى قَوْلِهِ: {إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا}[النساء:101-102].
          (ش) أي: هذه أبوابٌ في بيان حكم صلاة الخوف، كذا وقع لفظة (أبواب) بصيغة الجمع في رواية المُسْتَمْلِي وأبي الوقت، وفي رواية الأصيليِّ وكريمة: <باب> بالإفراد، وسقط في رواية الباقين.
          قوله: (وَقَوْلِ اللهِ) بالجرِّ، عطفًا على ما قبله، وثبتت الآيتان بتمامهما إلى قوله: {مُهِينًا} في رواية كريمة: وفي رواية الأصيليِّ اقتصر على قوله: <{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ}> ثُمَّ قال: <إلى قوله: {عَذَابًا مُهِينًا}>، وأَمَّا في رواية أبي ذرٍّ؛ فساق الآية الأولى بتمامها، ومن الآية الثانية ساق إلى قوله: <{مَعَكَ}> ثُمَّ قال: <إلى قوله: {عَذَابًا مُهِينًا}>، وإِنَّما ذكر هاتين الآيتين الكريمتين في هذه الترجمة إشارةً إلى أنَّ صلاة الخوف في هيئةٍ خارجةٍ عن هيئات بقيَّة الصلوات إِنَّما ثبتت بالكتاب، وأَمَّا بيان صورتها على اختلافها؛ فبالسُّنة.
          قوله: ({وَإِذَا ضَرَبْتُمْ}) الضرب في الأرض: السفر، ويقال: ضربتُ في الأرض؛ إذا سافرتَ، / وتأتي هذه المادَّة لمعانٍ كثيرةٍ.
          قوله: ({جُنَاحٌ}) أي: إثمٌ.
          قوله: ({أَنْ تَقْصُرُوا})، ظاهره التخيير بين القصر والإتمام، وأنَّ الإتمام أفضل، وإليه ذهب الشَّافِعِيُّ، وعند أبي حنيفة: القصر في السفر عزيمة غير رخصة، لا يجوز غيره، وقُرئَ: {أن تُقصِروا} بِضَمِّ التاء، مِنَ الإقصار، وقرأ الزُّهْريُّ: {أن تُقَصِّروا} بالتشديد، والقصر ثابت بنصِّ الكتاب في حال الخوف خاصَّةً، وهو قوله: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا}، وأَمَّا في حال الأمن فبالسُّنَّة، واحتجَّ الشَّافِعِيُّ أيضًا بما رواه مسلم والأربعة عن يَعْلَى بن أميَّة قال: قلت لعمر بن الخَطَّاب ☺ : قال الله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ} فقد أَمِنَ الناسُ، قال: عجبتُ مِمَّا عجبتَ منه، فسألتُ رسول الله صلعم فقال: «صدقةٌ تصدَّق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته»، فقد علَّق القصر بالقبول وسمَّاه صدقةً، والمتصدَّق عليه مخيَّرٌ في قبول الصَّدقة، فلا يلزمه القبول حتمًا، ولنا أحاديث:
          منها: حديث عائشة ♦ قالت: (فُرِضَت الصلاة ركعتين ركعتين، فأُقِرَّت صلاة السفر، وزِيدَ في صلاة الحضر) رواه البُخَاريُّ ومسلمٌ.
          ومنها: حديث ابن عَبَّاس قال: (فرض الله الصلاة على لسان نبيِّكم في الحضر أربع ركعات، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة) رواه مسلمٌ.
          ومنها: حديث عمر ☺ قال: (صلاة السفر ركعتان، [وصلاة الضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان]، تمام [غير] قصر على لسان نبيِّكم مُحَمَّد صلعم ) رواه النَّسائيُّ وابن ماجة وابن حِبَّان في «صحيحه».
          والجواب عن حديث يَعْلَى بن أميَّة: أنَّهُ دليلنا؛ لأنَّه أمرٌ بالقبول، والأمر للوجوب.
          قوله: ({أَنْ يَفْتِنَكُم}) المراد مِنَ (الفتنة) ههنا القتال والتعرُّض لِما يُكره.
          قوله: ({وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ}) تعلَّق به أبو يوسف، وذهب إلى أنَّ صلاة الخوف غيرُ مشروعةٍ بعد النَّبِيّ صلعم ، وبه قال الحسن بن زيادٍ والمُزَنِيُّ وإبراهيم ابن عُلَيَّةَ، فعلَّلَ المزنيُّ بالنَّسخ في زمان النَّبِيِّ صلعم ، حيث أخَّرها يوم الخندق، وعلَّل أبو يوسف بأنَّ الله شرط كون النَّبِيّ صلعم فيهم لإقامتها، وردَّ ما قاله المزنيُّ بما رُويَ عن الصحابة في هذا الباب بعد الخندق، والخندق متقدِّمٌ على المشهور، فكيف يَنسخ المتأخِّر؟ ذكره النَّوَوِيّ وغيره، وردَّ ما قاله أبو يوسف بأنَّ الصحابة فعلوها بعده صلعم ، وأنَّ سببها الخوف وهو يتحقَّق بعده؛ كما في حياته.
          ثُمَّ اعلم أنَّ الخوف لا يؤثِّر في نُقصان عدد الركعات إلَّا عند ابن عَبَّاس والحسن البِصْريِّ وطاووس حيث قالوا: إِنَّها ركعة، وروى مسلمٌ من حديث مجاهدٍ عن ابن عَبَّاس قال: «فرض الله الصلاة على لسان نبيِّكم في الحضر أربعًا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة»، وأخرجه الأربعة أيضًا، وإليه ذهب أيضًا عطاء وطاووس ومجاهد والحكم بن عُتَيْبة وقتادة وإسحاق والضحَّاك، وقال ابن قُدَامة: والذي قال منهم: «ركعة» إِنَّما جعلها عند شدَّة القتال، ورويَ مثلُهُ عن زيد بن ثابت وأبي هُرَيْرَة وجابر، قال جابر: إِنَّما القصر ركعة عند القتال، وقال إسحاق: يجزئك عند الشدَّة ركعة تومئ إيماءً، فإن لم تقدر فسجدة واحدة، فإن لم تقتدر فتكبيرة؛ لأنَّها ذكر الله تعالى، وعن الضحَّاك أنَّهُ قال: ركعة، فإن لم تقدر كبِّر تكبيرة حيث كان وجهك، وقال القاضي: لا تأثير للخوف في عدد الركعات، وهذا قول أكثر أهل العلم؛ منهم: ابن عمر والنَّخعيُّ والثَّوْريُّ ومالك والشَّافِعِيُّ وأبو حنيفة وأصحابه، وسائر أهل العلم من علماء الأمصار لا يُجيزون ركعةً.